العدد والمكان ليسا المشكلة في الحج
لمعالجة التزاحم على رمي الجمرات أقترح أن تقسم منى إلى مربعات ويتم تحديد وقت الرمي لكل حجاج مربع بشكل متتابع طوال اليوم بدلا من إطلاقهم جميعا في وقت واحد لرمي الجمرات، ومثل هذه الحلول يمكن أن تسهم في إيجاد مخارج للازدحام مع الاجتهاد الذي يوسع على المسلمين بالطبع.
إذا كان يقال لا ينفع حذر مع قدر، فإني أقول لن تنفع ولن تجدي أي احتياطات وجهود وإمكانيات وخطط تنظيم وطوارئ مع هذه الحشود المهولة التي نراها في موسم الحج وهي تزحف كالسيل العرم في وقت واحد ومكان واحد وهي تفتقد لأبسط متطلبات الوعي بالسلوك الإيجابي للتعامل المنظم، والاستثناء في تصوري، مع ضخامة العدد وقلة الوعي، أن ينفض موسم حج دون وقوع حادث مأساوي كالذي حدث عند الجمرات يوم الخميس الماضي، واستثني بالطبع حادثة سقوط الفندق في مكة قبل الحج بأيام والذي يبدو أنه ناتج عن إهمال في الصيانة والترميم.
في حادثة الجمرات تعالوا نستمع للشهادات لنقرأ مسببات الواقع المحزن الذي حدث عند الجمرات، فكل من أدلى بشهادته من موقع الحدث عبر الفضائيات أعاد أسباب ما حدث لأمرين، الأول التدافع غير المبرر من قبل بعض الحجاج وهو ما يعكس قلة الوعي، والثاني الدهس بالأقدام الناتج عن حالات الفزع بسبب انعدام الحس التنظيمي عند الحجاج، وبعض الشهود ألقوا باللوم على جنسيات معينة من الحجاج هم من تسبب فيما حدث عندما اندفعوا كالموج الهادر ببنياتهم الفارعة القوية بعنف وقوة وعجلة لا ترحم صوب الرمي فكان ضحية ذلك ضعاف البنية وكبار السن والنساء. ولفت سمعي شهادة شخص آخر قال فيها "ما يستوجب التحقيق فعلا" وهي أن مسؤولي بعض حملات الحج حثوا حجاجهم على المسارعة برمي الجمرات والعودة سريعا للمخيم وذلك للمغادرة الفورية للحاق برحلات الطائرات المقررة مساء اليوم نفسه. من كل هذه الشهادات التي أدلى بها شهود عيان وبعضهم ممن نجا، بفضل الله أولا، ثم بجهود رجال الدفاع المدني وقوى الأمن الأخرى حسب شهاداتهم، تحدد منبع المشكلة وهي التدافع المحموم والعجلة غير المبررة وعدم التوسيع على الناس بفتح وقت الرمي بدلا من التشدد بتقيده بعد الزوال.
ما حدث يعيدنا إلى القضية التي تطرح مع كل موسم حج وهي قضية كثرة العدد مع محدودية المكان، وهي إشكالية موسم كل حج، وقد حاولت الدول الإسلامية حلها من خلال تحديد نسب لكل دولة بواقع ألف حاج من كل مليون نسمة، وصدر بذلك قرار من اجتماع لوزراء خارجية الدول الإسلامية عقد في العاصمة الأردنية عمّان أواسط الثمانينيات الميلادية، وأظن أن تحديد نسب ما هو إلا حل مسكن ومؤقت، والدليل أن أعداد الحجيج في تزايد مما جعل بوضعهم الحالي يصعب السيطرة على تحركهم بشكل منظم، خصوصا عند الرمي، حيث تكمن المشكلة التي تكررت بالرغم من الجهود الخرافية التي تبذلها المملكة من أجل توفير كل الخدمات اللازمة والمتكاملة وبما يفوق الوصف والمتمثلة في إنشاء الطرق والجسور والمباني ومد شبكات المياه والكهرباء وإعداد فرق بشرية متعددة لتسهيل الحج على الحجاج وجعله ميسرا وآمنا، وهذا في تصوري هو أقصى ما يمكن أن تقدمه المملكة وتفعله، وأعتقد أن الأمر يستلزم حلولا أخرى منها ما هو فقهي ومنها ما هو تنظيمي، ولا أريد الخوض فيما هو فقهي لعدم تفقهي بما يكفي، ولكن أشير فقط إلى أن باب الاجتهاد يهدف إلى إيجاد حلول لما يواجه المسلمين من أمور مع تغير الظروف والعصور، ومن ذلك وقت الرمي وصفته، وعلى سبيل المثال أيهما أقل ضررا أن نجعل كل حاج يرمي الجمرات بنفسه أم نسهل على المسلمين بأن يقوم الولي كالأب أو الزوج أو الابن ببعض أيام الرمي نيابة عن الزوجة والابنة والأب والأم مثلا للتخفيف من الازدحام، خصوصا أن الرمي واجب وليس ركنا، لأنه في جوهره عملية رمزية. أما الجانب التنظيمي فهو مسؤولية الدول الإسلامية وبالذات الجهات الدينية المعنية، خاصة في الدول التي يأتي منها الحجيج، فالملاحظ أن كثيرا من الحجاج يفتقدون الكثير من الوعي بآليات وسلوكيات الحج المطلوبة، وهو ما يتطلب أن تصمم حملات توعية بما يمكن تسميته سلوكيات الحج مثل الامتناع عن التدافع والتزاحم والتسابق على أداء الشعيرة لكونها قد تفسدها وأن الرفق واللين في التعامل من محسنات الحج، ويمكن استغلال وقت الرحلات القادمة جوا أو بحرا وحتى برا في إعطاء الحجاج تعليمات وتوعيتهم بالسلوكيات الصحيحة المطلوبة في الحج، وليس فقط بأركانه وواجباته، وأتمنى هنا على رابطة العالم الإسلامي أن تعد فلما سينمائيا وأشرطة سمعية وكتيبات بكل اللغات تتضمن توعية الحجاج وتوجيههم بالسلوك الإيجابي في أداء الحج وتعرض على الحجاج أثناء قدومهم، كما على العلماء والفقهاء الاجتهاد فيما ييسر ويسهل أداء الشعيرة، خصوصا أن أعداد الحجاج في تزايد حتى مع النسبة المقررة وعلينا مواجهة هذه الزيادة بالاجتهاد في التسهيل والتوعية واستنباط سبل تنظيم جديدة.
على الرغم من كثرة أعداد الحجاج ومحدودية مساحة المشاعر إلا أنني لا أرى فيهما جوهر المشكلة، فالمشكلة أصلا نابعة من غياب الوعي ويعكسه التسابق على الانتهاء منها وما ينتج عن ذلك من تزاحم وتدافع يؤديان إلى كوارث كالتي حدثت في الجمرات، والملاحظة هنا أن معظم حوادث الحج تحدث عند الجمرات، خاصة في اليوم الأخير للرمي، حيث يريد غالبية الحجاج الانتهاء بأسرع وقت والمغادرة، وهنا أقترح لمعالجة التزاحم على رمي الجمرات بأن تقسم منى إلى مربعات ويتم تحديد وقت الرمي لكل حجاج مربع بشكل متتابع طوال اليوم بدلا من إطلاقهم جميعا في وقت واحد لرمي الجمرات، ومثل هذه الحلول يمكن أن تسهم في إيجاد مخارج للازدحام مع الاجتهاد الذي يوسع على المسلمين بالطبع، فلا يمكن تنظيم عملية رمي هذه الحشود، وقد بلغت مثلا وقت وقوع حادث الجمرات 600 ألف حسب تصريح اللواء التركي المتحدث باسم وزارة الداخلية إلا بتنظيم محكم قد يرى فيه البعض تقييدا لحركة الحجاج، ولكنه تنظيم يحميهم من هذه الفوضى التي تؤدي إلى كوارث تسيء للحج وللمسلمين، وهو ما سيؤدي تبعا للتخفيف من الازدحام في طواف الإفاضة والوداع حينما نعتمد نظام الدفعات المنظمة بدلا من التدافع غير المنظم، فالتنظيم الدقيق والتسهيل الذي لا يخل بجوهر الشعيرة سيقضيان على أية سلبيات تنتج من العدد وضيق المكان، وهو ما سيكمل الجهود الكبيرة التي تبذلها مختلف الأجهزة العاملة لخدمة حجاج بيت الله، إلا أن ذلك يتطلب تعاونا بين الجهات الداخلية والإسلامية كافة بما فيها الحملات المسؤولة عن الحجاج حتى يمكن القضاء على هذا التزاحم والتدافع مع أن هناك متسعا من الوقت، والعجلة، كما نقول، هي من الشيطان وهي ما أدت وستؤدي إلى مثل ما حدث في الجمرات.