الإخوان المسلمون في مصر بين المحافظة والانفتاح (2)
على الرغم من أن الجماعة قد اتخذت قراراً علنياً منذ عام 1994 بالسعي لتشكيل حزب سياسي شرعي في مصر، إلا أنها لم تحسم بأي صورة من الصور ستكون العلاقة بين هذا الحزب والجماعة، ولم توضح قط إذا ما كان الحزب سيحل محل الجماعة أم أنه سيظل بجانبها كإحدى أدواتها في العمل في المجال السياسي.
ذكرنا في المقال السابق أن جماعة الإخوان المسلمين في مصر تمر في الوقت الراهن بواحدة من أكثر مراحل تاريخها الطويل أهمية وحساسية، حيث تواجه عدة قضايا وملفات شائكة بداخل الجماعة وخارجها عليها أن تحسم الموقف تجاهها في أسرع وقت ممكن. وقد أرجعنا ظهور تلك القضايا والملفات إلى نجاح الجماعة الكبير والمفاجئ في الانتخابات البرلمانية المصرية وحصولها على خمس مقاعد مجلس الشعب، وبخاصة القضايا والملفات الداخلية التي يرتبط حسم بعضها بالقضايا والملفات الخارجية التي وجب على الجماعة مواجهتها أيضاً.
وقد حاول المقال السابق التركيز على قضية العلاقة بين أجيال الجماعة والتمايزات التي تفصل بينها والعوامل والمؤثرات التي أفضت إليها، أما المقال الحالي فسيركز أكثر على العلاقة بين القيادات العليا والوسيطة للجماعة وعضويتها في المناطق الحضرية وبين قياداتها وعضويتها المحلية في المناطق الريفية وشبه الريفية، أو بصياغة أخرى العلاقة بين تصورين مختلفين أحدهما يمكن وصفه بالمنفتح والآخر بالأكثر محافظة.
والمسألة الأولى في ذلك السياق تتعلق بالعوامل والمؤثرات التي تدفع إلى وجود تنويعات واختلافات في التوجه والرؤية بداخل الجماعة. وفي هذا الإطار تظهر أولاً حقيقة كون الجماعة ذات حجم كبير ومترامي الأطراف في المجتمع المصري، حيث يقدر عدد أعضائها العاملين بنحو مائة ألف عضو تقريباً, إضافة إلى المنتسبين والمرشحين للعضوية والمتعاطفين معها المنخرطين في بعض أنشطتها المتنوعة. ولا شك أن هذا العدد الكبير والتنوع في الدوائر المرتبطة بالجماعة يجعلان من الطبيعي أن تضم توجهات ورؤى مختلفة ومتنوعة تجاه عديد من القضايا السياسية والاجتماعية والدينية وغيرها تراوح بين المحافظة الشديدة والانفتاح الواسع.
ويأتي العامل الجغرافي بأبعاده الاجتماعية لكي يدعم وجود ذلك التنوع والاختلاف بما يرتبط به من توزع أعضاء ومناصري الجماعة بين عديد من المناطق الريفية والشعبية ذات التوجهات الاجتماعية المحافظة تقليدياً وبين المناطق الحضرية والأكثر علواً في السلم الاجتماعي والأكثر ميلاً للانفتاح من الزاوية الاجتماعية والثقافية. ويعد تنوع أنشطة الجماعة الواسع هو العامل الثالث المهم في وجود عديد من التوجهات والرؤى بداخلها تراوح بين المحافظة الشديدة والانفتاح الواسع، حيث تقوم الجماعة بأنشطة دينية وتربوية واجتماعية وسياسية واقتصادية وغير ذلك من أنشطة، وهو ما يترتب عليه تطبع من يركزون في بعض تلك الأنشطة ببعض من خصائصها التي تختلف عما يميز الأنشطة الأخرى من خصائص وسمات ذات علاقة بقضية المحافظة والانفتاح.
وبصفة عامة يؤثر العامل الرابع والأخير وهو حظر النشاط القانوني للجماعة ووضعها دوماً في محل المساءلة أو المطاردة الأمنية، في كل قيادات الجماعة وأعضائها بما يعطي لهم جميعاً طابعاً أكثر محافظة من الجماعات الأخرى الموجودة في المجتمع المصري والتي تتمتع بالشرعية القانونية.
أما المسألة الثانية فهي تتعلق بما أفرزته مرحلة ما بعد نجاح الإخوان في الانتخابات البرلمانية المصرية من قضايا برزت تجاهها الرؤى والتوجهات المختلفة في الجماعة والمتراوحة بين المحافظة الشديدة والانفتاح الواسع. وفي هذا السياق بدت قضية الحزب والجماعة هي الأكثر محورية وأهمية في الاختلاف حولها بين تلك الرؤى والتوجهات, فعلى الرغم من أن الجماعة قد اتخذت قراراً علنياً منذ عام 1994 بالسعي لتشكيل حزب سياسي شرعي في مصر، إلا أنها لم تحسم بأي صورة من الصور ستكون العلاقة بين هذا الحزب والجماعة، ولم توضح قط إذا ما كان الحزب سيحل محل الجماعة أم أنه سيظل بجانبها كإحدى أدواتها في العمل في المجال السياسي. وفور نجاح الجماعة الكبير في الانتخابات البرلمانية المصرية تصاعدت عليها الضغوط والمطالبات من مختلف أطراف المجتمع السياسي في البلاد مطالبة إياها بالسعي الفوري لتشكيل حزب سياسي علني وشرعي بما يتناسب مع ما حصلت عليه من تأييد شعبي ونسبة مؤثرة من مقاعد مجلس الشعب. وقد أثارت تلك القضية، ولا تزال، عديداً من التوجهات والرؤى بداخل الجماعة، يذهب الأكثر محافظة منها إلى التحفظ على قرار الجماعة نفسه بإنشاء حزب سياسي مؤثرين الإبقاء على الجماعة وحدها كأفضل إطار للحركة كان له الفضل بحسب رأيهم في تحقيقها النصر الانتخابي الذي حصلت عليه، ورافضين تحويلها إلى حزب سياسي خشية الوقوع في هوة الفشل الذريع الذي عانت منه كل الأحزاب الشرعية المصرية في تلك الانتخابات نفسها. وعلى الجانب الآخر يذهب توجه آخر بداخل الجماعة إلى حد المطالبة بإنشاء حزب سياسي تتحول إليه صفوف الجماعة تدريجياً بما يوصل في النهاية إلى حلها واستبدال هذا الحزب بها تماما. وفي المنتصف بين هاتين الرؤيتين توجد توجهات أخرى توفيقية تطرح الإبقاء على الجماعة بجانب السعي الجاد من جانبها لقيام حزب سياسي تابع لها على أن يكون للجماعة الكلمة العليا في تحديد مسار هذا الحزب.
إلا أن هيمنة قضية الحزب والجماعة في الوقت الراهن على الحوار الداخلي داخل صفوف الإخوان المسلمين لا تعني أنها القضية الوحيدة التي تراوح حولها توجهاتهم ورؤاهم بين المحافظة الشديدة والانفتاح الواسع، فهناك قضايا أخرى مهمة مثل وضع المرأة والمسيحيين المصريين وأولويات تطبيق الشريعة الإسلامية، وبخاصة الحدود وغير ذلك من قضايا، لا تزال تلك المراوحة قائمة تجاهها. ومع ذلك فإن انفتاح الجماعة بصورة عامة على المجتمع السياسي المصري بعد الانتخابات وطرح تلك القضايا الخلافية بداخلها على ساحة الحوار العام في مصر بمشاركة عديد من قياداتها وأعضائها سيدفع دون أدنى شك إلى بلورتها توجهات ومواقف أكثر تجانساً تجاهها، وهي ستكون على الأرجح، نتيجة لذلك، أقرب للانفتاح والوسطية منها للمحافظة والتقليدية.