الطرق والنقل .. عماد الاقتصاد الحديث

لا يتصور أحد أن ينمو اقتصاد ويزدهر دون اكتمال عنصرين مهمين من عناصر نمو الاقتصاد الحديث هما الطرق والنقل بأنواعه، فالطرق تشبه في أهميتها وتفرعها وامتدادها الأوردة والشرايين في الجسم، فهي مصدر الحياة، ومبعث الحيوية والنشاط والحركة، وإذا اعتل واحد منها أو اعتراه الخمول أو أصابه الضعف والانسداد تعطل الجزء من الجسم الذي كان يمده بمصدر الحياة وهو الدم، وانعزل هذا الجزء عن بقية أجزاء الجسم.. وهذا هو الحال بالنسبة للطرق البرية التي تربط الأطراف والأرياف بالمناطق الحضرية، وتقوي صلتها بالجسم الكبير، وتجعلها جزءا منه، وتؤدي إلى التكامل والتمازج والانصهار، وإذابة الفروق وتقوية الروابط الأسرية والصلات الاجتماعية، ناهيك عن تشجيع السياحة والنقل واستكشاف أماكن النزهة والرحلات، وتشجيع قيام المشاريع الاستثمارية.
ومتى ما كان هناك شبكة طرق حديثة مدعومة ببرامج صيانة جيدة، كان ذلك كفيلا بنشوء صناعة نقل منظمة غير مكلفة، تسهم في نمو الحركة الاقتصادية عن طريق تشجيع الإنتاج الزراعي، ونقله وتسويقه في مناطق استهلاكه، إضافة إلى خفض تكاليف النقل عموما، فضلا عن تشجيع إحياء بعض الصناعات التقليدية التي تكاد تندثر، نظرا لتوافر عوامل نقلها وتسويقها في أماكن الطلب عليها، وقد كان هذا المحور، المتعلق بالنقل، أحد المحاور المهمة التي تناولها منتدى الرياض الاقتصادي من خلال البحث المقدم للمنتدى، ومن خلال الطرح والنقاش اللذين أبرزا مدى أهمية الموضوع لحاضر ومستقبل الاقتصاد في المملكة. وانطلاقا من هذه الأهمية سأتناول في هذا المقال بعض الجوانب التي تركز حولها البحث والنقاش.

الطرق البرية ودور القطاع الخاص
كان أحد المشروعات النموذجية التي طرحتها الدراسة ضمن منظور مساهمة القطاع الخاص في إقامة الطرق، يتمثل في أن يقوم القطاع الخاص بتطوير قطاعات محددة من الطرق الفرعية، مقابل عائد من الاستثمار يتمثل في رسوم الاستخدام الفردي والتجاري، كما يقوم بالإسهام في إنشاء الطرق السريعة مقابل رسوم تفرض على الاستخدام.. وما من شك في أن هذه الرؤية تعكس رغبة القطاع الخاص وحرصه على الإسهام مع الحكومة في استكمال بناء الطرق التي لم تتمكن من تمويلها من خلال الميزانيات، في مقابل قيامه بتشغيلها واسترداد استثماراته فيها عن طريق استيفاء مقابل للاستخدام وفق أسلوب البناء والتشغيل والإرجاع BOT، وهو أسلوب معروف ومطبق في بعض الدول، غير أن استخدامه في مجال الطرق بالذات ينبغي أن يأتي ضمن رؤية حذرة تقوم على أساس أن استكمال بناء الطرق بأنواعها، من فرعية ومزدوجة وسريعة، هو من واجبات الدولة الأساسية التي تنفق عليها من المال العام، الذي يشترك الكل في ملكيته، ومتى استكمل ذلك يمكن فتح المجال للاستثمار في بناء طرق إضافية، بمواصفات متميزة، وضمن ضوابط يأتي في مقدمتها أن يكون هناك طريق بديل للطريق المقرر إنشاؤه، بحيث يكون الأمر اختياريا أمام العابرين، وأن يكون الاستثمار مقتصرا على إنشاء طرق سريعة توفر اختصار الوقت، وزيادة عناصر السلامة، والصيانة الجيدة، وهذا الأسلوب هو المعمول به، أي أنه بعد اكتمال إنشاء الطرق بأنواعها، يأتي مستثمرون باقتراح إنشاء طرق إضافية سريعة مقابل استثمارها برسوم رمزية لفترة معينة، تجري إعادتها بعد انتهائها إلى الحكومة، لتتولى إدارتها وتشغيلها لصالحها.
وفي نظرة عاجلة على الطرق لدينا نجد أن الدولة تمكنت من إنشاء شبكة واسعة من الطرق لا يسع المنصف إلا أن يقول إنها تضاهي ما هو عليه الوضع في بعض البلدان المتقدمة، ولكن اتساع مساحة المملكة وتنوع جغرافيتها يجعلان الحاجة قائمة باستمرار إلى بناء المزيد من الطرق، وتجديد بعض الطرق القديمة، أو تغيير مساراتها لجعلها أكثر أمنا، ولا أدل على ذلك مما نراه من التماسات يرفعها المواطنون عبر الصحف المحلية أو إعلانات تحمل الشكر والابتهاج عندما تحمل الأنباء قرب إنشاء طريق هم بحاجة إليه.
ولعل مما ينبغي الإشارة إليه أن من المستبعد أن تقوم الحكومة بفرض رسوم على استخدام طرق قائمة جرى بناؤها من المال العام، نظرا لأن ذلك ينافي المبدأ الذي تقوم عليه فلسفة الاستثمار في الطرق، وهو أن يكون ذلك قاصرا على طرق إضافية سريعة يقوم بها مستثمر، يضاف إلى ذلك أن فرض رسوم على طرق قائمة يتطلب تأهيل الطريق وتحصينه، وبناء وصلات ومداخل ومخارج وبوابات، وهو أمر مكلف بحساب النفقات، يحسن أن يصرف في بناء طرق جديدة.

إسهام النقل البري في التنمية
أشرت فيما مضى إلى أن توافر طرق جيدة وآمنة يكفل قيام صناعة نقل جيدة ومنظمة وغير مكلفة تسهم في التنمية عن طريق نقل الإمدادات والمنتجات في توازنات تستجيب للاحتياجات، وإذا التفتنا إلى صناعة النقل البري لدينا وجب الاعتراف بأنها تعد صناعة جيدة، تستخدم وسائل نقل حديثة، تعمل في جو تنافسي يستفيد منه في الغالب المواطن، عندما ينخفض هامش تكلفة النقل نسبة إلى التكاليف الأخرى، غير أن الملاحظ أنه يغلب على هذا القطاع أسلوب الفردية في الملكية، والكيانات الصغيرة، باستثناء شركة أو اثنتين، فضلا عما يتم تناقله من شيوع ظاهرة التستر فيه، وبالنظر إلى مساحة المملكة وانتشار مدنها وقراها، ناهيك عن حجم الواردات والصادرات وحركة النقل عموما، نلحظ أن هذا الأسلوب لا يناسب وضع المملكة، وأن الحاجة أصبحت ماسة إلى تكوين اندماجات تسفر عن قيام كيانات قوية، إلى جانب قيام شركة مساهمة عامة واحدة على الأقل تقوم وزارة النقل بتنسيق الدعوة لها، بحيث يسهم في تأسيسها العاملون حاليا في مجال النقل، إلى جانب المواطنين عن طريق الاكتتاب العام.. وسيكون ذلك، إذا تم، كفيلا بدعم هذه الصناعة وتنظيمها، وتقوية دورها في مسيرة التنمية، إلى جانب القضاء على ممارسات التستر الحاصلة بها.

النقل الجوي.. الهم المشترك
تناول النقاش في المنتدى وضع النقل الجوي من حيث الكفاءة والتكلفة وتلبية الحاجة، كما تناول الحوار موضوع تخصيص الخطوط الجوية السعودية الذي طال انتظاره، والذي يُعلق عليه الأمل، في فتح المنافسة كي يجد المواطن مقعدا له ولعائلته في الوقت الذي يريد، وللوجهة التي يقصدها، ورغم عدم تحمس بعض المحاورين للاستعجال في ذلك طالما تكونت بعض الشركات الداخلية التي تعمل في مجال النقل الجوي، يحسن الإشارة إلى أن تخصيص الخطوط السعودية هو أمر في غاية الأهمية، ليس فقط لإيجاد جو المنافسة، إنما لتحقيق أهداف خطط التنمية، التي تقضي بألا تقوم الحكومة بعمل يمكن للقطاع الخاص أن يقوم به، وصناعة النقل الجوي من أيسر ما يمكن الاستثمار فيه.
وعلاوة على ذلك فإن ظروف النقل الجوي وما يعانيه المواطنون من جراء عدم توافر مقاعد لتنقلاتهم على مدار العام، وليس فقط في المواسم، يجعلان التخصيص أمرا ملحا لإفساح المجال لقيام شركات ذات كيانات قوية، وليست كما هي البداية حاليا، المتمثلة في إنشاء شركة أو اثنتين بإمكانات ضعيفة تختار نقاط أفضلية بأسعار لا قبل للمواطن بها.
إن من المعروف أن الخطوط السعودية تواجه صعوبة في مقابلة الطلب على النقل الداخلي، لأن الحكومة تفرض سعرا تقول إنه أقل من التكلفة أو أسعار النقل الدولي، ومن ثم فهي تركز على النقل الدولي بحثا عن الربح، غير أن هذه الحجة قد سقطت بعد قيام عدة شركات بتشغيل خطوط دولية بأسعار تقل كثيرا عن الأسعار العالمية، وهو ما يبعث على الاعتقاد بنجاح قيام شركات تعمل في مطارات المملكة كافة، يعزز من هذا الاعتقاد إقبال سكان المملكة على التنقل جويا، ربما مضطرين لقلة الخيارات المتاحة، الأمر الذي يضطر معه المواطن، في غالب الأحيان، إلى امتطاء سيارته هو وعائلته عندما يُقابل بأن الرحلات مقفلة، رغم ما يشاهده من حوادث.
والله من وراء القصد.

**
كاتب في الشأن العام

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي