كيف نتحكم في "الثقافة الشعبية"؟

هناك حديث يومي في الإعلام العربي عن "النخبة" و"الشارع" أو "العامة"، مع ربط النخبة عادة بالثقافة والحكمة والعمق، وربط العموم بالغوغائية والسطحية والجهل. لكن متابعة ما يحصل في عالمنا العربي تؤكد حقيقة أن دور النخبة يتضاءل في مجالات عديدة، ودور العموم يتزايد، وأسهم في ذلك تطور مجالات الترفيه التي ترتبط عادة بالجماهير، ونمو الإعلام الإلكتروني والتفاعلية في الإعلام التلفزيوني والذي سمح لكل إنسان عربي أن يكون له صوته ويشارك في صياغة المعلومات التي تتطاير من حولنا، كما أسهم في ذلك نمو الحس الفردي على المستوى الاجتماعي، ونمو الممارسات الديمقراطية التي تعطي لـ"الشعب" صوته والضعف المتزايد للثقافة النخبوية المرتبطة عادة بالأيدولوجيا أو الأفكار السياسية.
إننا بحاجة إلى الاعتراف بأن لدينا في العالم العربي "ثقافة شعبية" Popular culture تتنامى بشكل سريع في التأثير والتنوع، ورغم أن هناك عشرات الأقسام العلمية في الغرب لدراسة الثقافة الشعبية فإن العالم العربي ليس فيه, حسب ما أعرف, مؤسسة أكاديمية أو ثقافية واحدة تهتم بالثقافة الشعبية، مما تجعلها ككيان هلامي ينمو حولنا دون أن يذكر لنا أحد بأنه موجود !!
إن تجاهل النخبة لـ"الشارع" ورفضهم له خوفا من الطوفان الجارف خطأ فادح، لأن العوامل التي أسهمت في الظاهرة في نمو سريع ومتزايد، ولذا فإن على النخبة أن تعرف "حدودها" الجديدة وتلزم دوائر التأثير الخاصة بها، وتترك الجماهيرية والحظ و"السوبر ستار" للشعب، وعلى "النخبة" أن تعرف مسؤوليتها الجديدة وهي دراسة هذه الظواهر ومتابعة تفاصيلها ودراسة طرق التحكم فيها إيجابيا.
إن واقع التجربة الغربية يؤكد أنه يمكن "هندسة الثقافة الشعبية" والتحكم فيها وتوجيهها وتحويلها لعامل بناء بدلا من أن تكون عامل هدم، وهذا لا يتم بـ"الضغط"، وذلك لأن التجارب تثبت أن الضغط على الثقافة الشعبية لا يلغيها بل يدفعها للتخفي لتتحول لـ "ثقافة تحت الأرض"Underground culture، وهذا أخطر أنواع الثقافة الشعبية وأكثرها تدميرا، لأنها بعيدة عن كل توجيه، وملك لقيادة الشخصيات المؤثرة شديدة السلبية والرفض للمجتمع، ولأنها قد تتجمع شيئا فشيئا حتى تنفجر وتفسد في الأرض ويصبح من المستحيل محاصرتها أو التحكم فيها فضلا عن إصلاحها. هذا طبعا بالإضافة إلى أن التكنولوجيا جعلت من المستحيل التحكم في الثقافة الشعبية، ولذا فعندما تتحدث دراسات "هندسة الثقافة الشعبية" عن التأثير، فهي تتحدث دائما عن التغلغل في وسط دوائر الثقافة الشعبية وتحويلها إيجابيا من الداخل، تماما كما يتم تغيير الجينات وهندستها وراثيا.
فيما يلي بعض الحلول التي أقترحها لـ"هندسة الثقافة الشعبية":
مراعاة التنوع: الثقافة الشعبية ليست ثقافة واحدة، بل هي مئات من دوائر الثقافات، تتقاطع مع بعضها وتنتشر بطول وعرض "المساحة الشعبية"، والتعامل مع هذه الدوائر بطريقة واحدة دلالة جهل، ولا بد من بناء استراتيجيات متنوعة بتنوع هذه الدوائر، وبتنوع الصفات الديمغرافية للأشخاص الذين ينتمون لهذه الدوائر.
تحويل دوائر الثقافة الشعبية إلى مؤسسات: تنادي الدراسات بالسماح لدوائر الثقافة الشعبية للتحول لمؤسسات وجمعيات ومجموعات أنشطة. إن التجارب تثبت أن التعامل مع المؤسسة أسهل من التعامل مع الأفراد، والتعامل مع المؤسسة يمكن من إصلاحها ويصلح بذلك معظم أعضاء المؤسسة المخلصين، بينما التعامل مع الفرد صعب ومضيع للوقت. أكثر من ذلك، أثبتت كثير من التجارب التي ركزت على إصلاح مجموعات الثقافة الشعبية السلبية مثل المجموعات العنصرية أن تحويل هذه المجموعات إلى مؤسسات يضعها في الضوء الذي يضطرها لتبرير فلسفتها والدفاع عنها والرد على حجج الرافضين لها، وهذا يؤدي في الغالب إلى سيطرة العناصر الجيدة وموت العناصر البكتيرية في ضوء الشمس وفتح أبواب المؤسسة للإصلاح. وعلى كل حال، فإن أي متخصص في الثقافة الشعبية لن يرضى بإمكانية إصلاح "الشعب" أو "العامة" ما لم تكن لهم أنشطة ثقافية واجتماعية وفكرية بأشكال عديدة تنهك القوى السلبية وتستهلك القوى الحائرة وتترك للقوى الإيجابية عجلة القيادة.
استخدام وسائل الثقافة الشعبية: إنني لا أفهم بأي شكل من الأشكال كيف تتشدق التيارات النخبوية الإيجابية بالرغبة في إصلاح العموم وهي لا تملك قناة فضائية ناجحة، وكيف تدعي الإصلاح وهي لا تملك مجلة مقروءة شعبيا ولا جريدة يومية، ولا حتى تواصلا معقولا مع الدوائر الشعبية. إن هذا حاصل في كثير من الأحيان لأن النخبة لا ترى إلا النخب، وتظن أن وسائل التأثير النخبوية ستصل للعامة، أو أن عصا سحرية ستلامس العامة فتحولهم إلى مستهلكين للوسائل النخبوية.
دراسة الثقافة الشعبية: دعونا هذه المرة نقف ونرفض أي جهود ليست قائمة على تخطيط ولا دراسات. دراسة الثقافة الشعبية من خلال مراكز أبحاث منظمة أمر لا مهرب منه إذا كنا نريد "هندسة الثقافة الشعبية". أقسام الجامعات الأكاديمية من خلال أقسام الإعلام والاجتماع واللغة وغيرها يمكنها أن تسهم بشكل هائل في هذا الدور. أيضا نحتاج مجلات متخصصة في الثقافة الشعبية، بحيث تقدم تقارير صحافية ودراسات جادة عن الظواهر الشعبية على تنوعها.
التعليم الراقي والتربية الصارمة: تتميز التجربة الآسيوية بأنها تعاملت مع خوفها من "التفاهات الغربية" من خلال نشر روح الجدية في أبنائها ورفع مستوى نظم التعليم إلى حدود نسمع عنها ولا نصدقها. التعليم الراقي جدا والتربية الصارمة القائمة على المبادئ التي ترتفع بالذات وليست القائمة على الضغط والاضطهاد هو في رأيي الشخصي الحل الذي يمكن أن ننطلق منه في استغلال جموع الثقافة الشعبية لتتحول إلى جموع منتجة ذكية جادة تنطلق بمسيرة البناء والتحدي وترفعنا من وحل الحضيض.
الأطفال هم الحل: موضوع الأطفال العرب وما يلاقونه من ازدراء نخبوي عام موضوع كتبت فيه مئات الصفحات، فالحقيقة الثابتة الباقية أن الأطفال العرب يكبرون دون نظرة رحمة أو عطف ثقافية. الأطفال هم نواة الجيل القادم، والعناية بهم يعني العناية بالبذور بدلا من إصلاح الأشجار الفاسدة.
فتش عن المرأة: الكثيرون يظنون أن عملية الإصلاح يمكن أن تكتمل من دون المرأة، وهؤلاء سواء كانوا من الغربيين أو الآسيويين أو العرب كما تشير التجارب العالمية فشلوا لأنهم تجاهلوا عنصرا رهيبا في تأثيره القوي والخفي في الوقت نفسه. المرأة في عالمنا العربي لا تنتمي إلى النخبة إلا نادرا، ولا تلقى من نصيب المشاركة الثقافية إلا النزر اليسير، وإن كانت دائما هي من يربي ويشارك النخبة حياتهم في بيوتهم وتجاهلها أدى في كثير من الأحيان لنتائج وخيمة يندم الجميع عليها رجالا ونساء.
...
إن النخبة في رأيي بحاجة إلى النظر جديا في الكيفية المثلى للتعامل مع الثقافة الشعبية الدارجة، والتي تحولت إلى طوفان أغرق الجميع، دون أن ينتبه أحد !

**
رئيس تحرير موقع العربية. نت (alarabiya.net)

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي