أيهما أصعب على واشنطن: الأمن القومي أم السياسة الخارجية؟

تخطط الدول العظمى استراتيجياتها وسياساتها بحيث تغطي مرحلة لا تقل عن 50 عاما. فالولايات المتحدة التي تهيمن الآن على مقدرات العالم أو هكذا تتخيل، بدأت تداعب أحلام السيادة منذ انتصرت على إسبانيا 1899 واحتلت الفلبين. ونظرا لأن الإمبراطورية البريطانية كانت في أوجها وكذلك الإمبراطورية الفرنسية، فقد أخفت أمريكا نزعاتها التوسعية في نصف القرن من 1895 إلى 1945. ومع ذلك فإننا إذا تأملنا موقف الرئيس وودرو ويلسون في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) فإننا سنلمح معول هدم في يد واشنطن تقوض به القوى الأوروبية التقليدية. وتمثل هذا المعول في إعلان حق تقرير المصير الذي فتح شهية المستعمرات للمطالبة بالاستقلال, وقد أدى هذا الإعلان دوره في تقليص المستعمرات، وتحول إلى شعار ترفعه حركات التحرير والقوى المطالبة بتحقيق كيانها وخلع نفسها من ربقة الاستعمار.
أما الخمسون عاما التالية فقد قضتها أمريكا في صراع مستمر عرفه العالم باسم الحرب الباردة، لتقويض الإمبراطورية السوفياتية التي توسعت تحت قيادة جوزيف ستالين.
وكرست واشنطن كل طاقاتها لهذا الغرض الذي تحقق بدءا من 1989 وحتى نهاية القرن. هذا النجاح أنعش أحلام أمريكا كي تستمر في حروبها المقدسة لإسقاط المزيد من الخصوم وتحقيق مكاسب جديدة ومستمرة. فوضعت مخططا للخمسين عاما التي تبدأ مع بداية القرن الحادي والعشرين بحيث تواصل هيمنتها دون مواربة ودون خجل من صديق أو حليف.
ينطلق المخطط الأمريكي الجديد معتمدا على أمرين هما أولاً السياسة الخارجية وثانياً الأمن القومي.
ومن الأهمية بمكان أن نتابع باهتمام هذا المخطط لأنه يمسنا بشدة ويضع أمامنا كعرب ومسلمين تحديات هائلة.
بديهي أن يكون البناء الضخم الذي شيدته أمريكا عبر القرن الماضي من أسلحة دمار شامل وإمكانات علمية هائلة وبنى تحتيةه متينة في كافة المجالات الأمنية والعسكرية والاقتصادية وبدرجة أقل الثقافية والاجتماعية, نقطة الانطلاق وقاعدة الغزوة الجديدة. فهي تهدد العالم بأسلحتها، وهي ترسانة يهيمن عليها عناصر لا تقبل بإحالتها إلى المعاش ولا ترضى بحلول سلمية، فكيف تتوقف شركات إنتاج وتطوير الطائرات الحربية عن عمل يدر المليارات ويعمل فيه الملايين؟ وكيف تتوقف مصانع أدماها وأريزونا ونيفادا عن إنتاج الذخيرة والأسلحة التقليدية؟ وكيف يتم تسريح جيش ومشاة بحرية وطيران قوامهم ثلاثة ملايين ونصف إلى جانب الاحتياط؟
لقد أصبحت العدة التي تم إعدادها لإسقاط السوفيات عبئا يفرض نفسه على التخطيط ولا يمكن أن يبقى عاطلا ولا يصح أن يتحول نجومه بين عام وآخر إلى غياهب النسيان.
وحتى ننتقل من الاستنتاج والاجتهاد إلى الأحداث والوقائع نطل على المبنى رقم 2118 شارع رايبيرن حيث تجتمع لجنة الكونجرس المسؤولة عن الخدمات العسكرية, حيث يدلي بشهادته كورت كامبل النائب الأول لمدير إدارة الأمن الدولي والأستاذ في مركز الأمن القومي للدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن. يقول كامبل في شهادته "إن السياسة الخارجية الأمريكية مرت بمرحلة من التردد وعدم وضوح الرؤية, خاصة فيما يتعلق بتحديد التحديات التي من الممكن أن تواجه الولايات المتحدة على امتداد الأعوام الخمسين التالية (2000 ـ 2050). وأخيرا ظهر لنا أن التحدي الأعظم يتركز في قوتين يجب التعامل معهما وتسخير السياسة الخارجية لتصبح أداة لتدميرهما. هاتان القوتان هما: الأصوليون المسلمون والصين. مما يؤكد أن كتابات هننتنجتون وفوروكاوا حول صراع الحضارات كان أمرا معدا ومدفوع الثمن لإثارة القضية لدى الرأي العام الأمريكي والغربي".
ويواصل كامبل عرض وجهة نظره فيقول إن هذا الصراع سيكون رهيبا وطويلا ويتطلب صبرا وتضحيات لم تتعود عليها أمريكا. ونظرا لأن الخطرين يحدثان في وقت واحد, فإن حكومة الولايات المتحدة لن تتمكن من التعامل معهما لأنها تعودت على التعامل مع مشكلة كبرى واحدة مثلما حدث في نصف القرن الماضي حينما كان الشغل الشاغل لواشنطن احتواء وإضعاف ومحو الاتحاد السوفياتي من خريطة العالم. والولايات المتحدة بوضعها الراهن غير مستعد, والكلام لكامبل, عسكريا أو نفسيا أو سياسيا لهذه المعركة. وتوقع كامبل أن يتسع نطاق التحدي فتغرق فيه الإدارة, كما ظهر في الجولة الأولى مع أفغانستان والعراق, حيث سخرت واشنطن قوتها السياسية وضغوطها العارمة لتجنيد قوة عالمية تخدم أهدافها وأثبتت التجربة أن هذا العمل لن يكون متاحا بصفة دائمة خاصة إذا أظهر الخصوم صلابة كما حدث في الحالة العراقية.
ويرى مخططو السياسة الأمريكية أن واشنطن ستدخل أصعب امتحان في السياسة الخارجية لأنها ستتعامل مع خصمين مختلفين في آن واحد. وقد يقول البعض إن أمريكا حاربت ألمانيا النازية واليابان الإمبريالية في غضون عمليات الحرب العالمية الثانية وكانت تحارب على جبهتين إحداهما في الأطلنطي والأخرى في المحيط الهادي مع خصمين مختلفين. ولكن القوة العسكرية التي استخدمت لهزيمة ألمانيا واليابان (مع عشرات الحلفاء) والتكتيك الذي لجأت إليه أمريكا في الحالتين كان واحدا ومتشابها, ولم تكن هناك فروق إلا التي فرضتها ظروف المكان وطبيعة أرض المعركة (برية, بحرية, نووية) وجغرافيا العدوين. وفي حالة الحرب الباردة كان ساسة أمريكا يتبعون أسلوبا موحدا في ممارسة العداء بداية من أتشيسون إلى جون فوستر دالاس إلى كرستيان هيرتر إلى دين راسك وهنري كيسنجر. وكان الأسلوب موحدا يلقنه الأقدم للأحدث على اختلاف الحزب الحاكم. أسلوب يعتمد على التشهير الإعلامي والحرب النفسية واستخدام سلاح الترهيب والترغيب مع الدول المجاورة والضغوط الاقتصادية بحيث يجمع خبراء السياسة على أن ممارسة السياسة الخارجية الأمريكية كانت عملا روتينيا رتيبا لأنه محدد المعالم واضح الأهداف ولكن هذه الحقبة مضت وولت. وأصبح على رجال السياسة الخارجية ورجال الأمن القومي التعامل مع أعداء صنعتها لهم القوى الخفية في أمريكا. والعدو الأول حسب تعريف هذه القوى هو تجمع ضخم لمحاربين جهاديين لا تجمعهم دولة محددة ويضربون في كل مكان, أما العدو الثاني فهو ذلك العملاق التجاري والسياسي والعسكري الصاعد الواعد في آسيا.
وعلى غرار التهويل الذي اتبع مع الجيش العراقي قبل الاشتباك معه سنة 1991 ووصفه بأنه رابع أقوى جيش في العالم لتبرير المذابح, فإن الحملة الإعلامية الأمريكية ووراءها الصهيونية هي الاعتماد على تهويل قوة الخصوم الجدد لاستفزاز الرأي العام الأمريكي المُضلل دائما.
ومنذ أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) التي تثبت التطورات أنها كانت حتمية ولا بد من إحداثها لتسيير أمور كثيرة, فإن الولايات المتحدة لجأت إلى القوة العسكرية المنهجية. ويقول الأمريكيون إن العراق انضم إلى الإرهاب الدولي بسبب الغزو الأمريكي, وعلينا أن نتذكر أن الحملة الإعلامية الأمريكية قبل غزو العراق سنة 2003 ركزت على أن العراق ضالع مع الإرهاب وأن صدام حليف لابن لادن, وهو أمر بادرت واشنطن بإنكاره عندما تأكدت من انهيار مصداقيتها تماما في العالمين العربي والإسلامي. ولكن الصدمة الأمريكية تمثلت في حرب المدن التي بدأت ولم تنته والتي تقر واشنطن بأنها كانت خطأ كبيرا. أما الصين فهي تنطلق على طريق "القوة الناعمة" حيث تمضي قدما لتقوية جيوشها والارتقاء باقتصادها وتحديث قاعدتها العلمية وتوسيع قنواتها الدبلوماسية. ويقول الأمريكيون بأسى "إن الصين تحقق انطلاقا هائلا بسبب ثغراتنا وأخطائنا وانهيار شعبيتنا".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي