الاقتصاد السعودي طفرة طارئة أم تنمية مستدامة؟

هل يمكن الإفادة من المستجدات التاريخية التي شهدتها المملكة خلال العام المنصرم لتحقيق تحولات هيكلية للاقتصاد السعودي؟ .. كيف يمكن تحويل تلك المستجدات الطارئة إلى آليات لتحقيق تنمية مستدامة تضع حداً لمشكلات مزمنة لازمت اقتصادنا الوطني عبر عقود طويلة؟ .. هذه وتلك تأتي ضمن تساؤلات عديدة تشغل بال المراقبين والاقتصاديين والمسؤولين (حكوميين وأهليين) خلال هذه المرحلة المهمة من مراحل تطور واقعنا السعودي.
مؤشرات قوة
لقد تلقى اقتصادنا الوطني خلال العامين الماضين قوة دفع كبيرة، مما يجعل من مؤشرات القوة الاستثنائية المتراكمة خلال هذه الفترة أمراً يستحق منا وقفة، حتى لا تكون مجرد تطورات عادية نطويها كمجرد أرقام .. لأنها تمثل مخزوناً هائلاً للطاقة يمكنه أن يكون المحرك الرئيس لعجلة النمو الاقتصادي لسنوات طويلة ـ إن شاء الله.
لا يمكننا إذن أن نودع العام 2005 دون الوقوف على بعض الأحداث الاقتصادية التي جعلت منه "تاريخياً" وقياسياً واستثنائياً منذ تأسيس المملكة العربية السعودية وذلك على النحو التالي:
تطور مهم شهده العام بتولي خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الحكم، بما عرف عنه من إعطاء أولوية قصوى للشأن الاقتصادي بما في ذلك سرعة إعادة هيكلة المجلس الاقتصادي الأعلى واستمرار ترؤس خادم الحرمين الشريفين له.
شهد العام تماسك أسواق النفط المصدر الرئيس للدخل، بعد أن عززت مكاسبها التي حققتها العام السابق، حتى بلغت أسعار الخام مستويات قياسية وسط اتفاق معظم المحللين بمحافظة الخام على مستوياته المرتفعة للأسعار فوق مستوى 50 دولارا للبرميل لأكثر من سنة مالية مقبلة.
وتبعاً لذلك حققت إيرادات الدولة الفعلية مستويات تاريخية قدرتها وزارة المالية بنحو 555 مليار ريال في نهاية عام 2005م، الأمر الذي ساعد على زيادة الإنفاق الحكومي إلى أكثر من 280 مليار ريال وتخصيص جزء كبير من الفائض للإنفاق على المشاريع التنموية وتلك المرتبطة بتنمية الموارد والقدرات البشرية السعودية.
زيادة رواتب جميع فئات العاملين السعوديين في الدولة من مدنيين وعسكريين وكذلك المتقاعدين لأول مرة منذ سنوات طويلة، بنسبة 15 في المائة وزيادة مخصصات الأسر المحتاجة من الضمان الاجتماعي.
الإعلان عن أكبر موازنة سعودية تقدر إيراداتها بنحو 390 مليار ريال وحجم الإنفاق فيها 335 مليار ريال وهي أكبر ميزانية ترصدها المملكة منذ تأسيسها ومع ذلك يقدر الفائض بنحو 55 مليار ريال وسط توقعات بارتفاعه بنهاية العام عن مستوى الفائض المحقق لسنة 2005م والبالغ 214 مليار ريال.
وبنهاية العام قفز الناتج المحلى السعودي بالأسعار الجارية من 250 مليار دولار عام 2004 إلى أكثر من 300 مليار دولار وهو أعلى سقف يحققه الاقتصاد السعودي.
شهد العام ارتفاع مؤشرات الأسهم السعودية إلى مستويات قياسية حيث نمت السوق المالية منذ بداية العام وحتى قبل أيام من نهاية العام بما يزيد على 100 في المائة، كما تجاوزت القيمة السوقية للأسهم المتداولة 2.4 تريليون ريال.
وجراء سياسات مدروسة لاستخدام الأداء القوي للاقتصاد الوطني تم خفض الدين العام من 700 مليار ريال إلى 475 مليار ريال أي أقل من 50 في المائة من الناتج المحلي وهو مستوى لم يتحقق منذ سنوات طويلة.
شهد العام 2005 تصنيف المملكة بين أكبر 20 اقتصاداً عالمياً من خلال أدائه العام السابق ومن المتوقع تعزيز المملكة لمكانتها العالمية خلال العام الجاري من خلال ما أشرنا إليه من ارتفاع الناتج المحلي.
توج العام "تميزه" بحصول المملكة رسمياً على بطاقة العضوية لمنظمة التجارة العالمية وذلك في كانون الأول (ديسمبر) 2005 خلال الاجتماع الوزاري للمنظمة في هونج كونج، كعضو فاعل حيث أصبح بمقدور المملكة التصدير لنحو 148 سوقا عالمية.
شهد العام 2005 الإعلان عن أكبر فرص استثمارية دفعة واحدة حيث بدأت المملكة تسويق فرص استثمارية يقدر حجمها بنحو 2.3 تريليون دولار تغطي معظم القطاعات.
أجندة اقتصادية
وفضلاً عن كل ذلك فقد تبنت المملكة خلال العام 2005 أجندة اقتصادية واضحة المعالم تأخذ في الاعتبار معالجة الدين العام ومحاربة الفقر والبطالة وتوفير فرص وظيفية للشباب السعودي، إلى جانب الاستمرار في تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي وتسريع وتيرته. ولتحقيق ذلك ضخت الدولة جزءاً كبيراً من الفوائض المالية التي أسهمت بدورها في إنعاش الاقتصاد. كما استمرت المملكة في تحسين مناخ الاستثمار من خلال إقرار استراتيجية جديدة لعمل الهيئة العامة للاستثمار، وتوجيه القيادة العليا لمحافظ الهيئة للاتفاق مع الجهات الحكومية المعنية حول الآليات المناسبة لإزالة المعوقات التي تواجه المستثمرين وطلب رفع تقرير متابعة للمجلس الاقتصادي الأعلى كل ثلاثة أشهر حول نتائج التطبيق.

نحو تنمية مستدامة
ما سبق واقع ملموس نعيشه لكنه واقع متغير يمكن أن يتغير سلباً أو إيجاباً لأسباب خارجة في معظمها عن إرادتنا.. ولكن السؤال الفصل في هذا الصدد هو: كيف يمكننا تحويل هذا الواقع الطارئ إلى برنامج تنموي مستدام نتحكم فيه؟ .. هذا في رأيي هو التحدي الاقتصادي الأكبر الذي يواجهنا كسعوديين.. كيف نجعل من المتغير ثابتاً ومن الطارئ مستداماً؟
وهكذا فنحن أمام تطور تاريخي ينتظر منا التعامل معه أيضاً بتحول تاريخي في سياساتنا وأفكارنا!!
وأعتقد أننا جميعاً كمسؤولين حكوميين أو قيادات العمل الأهلي معنيون بالتخلي عن النمط القديم من التفكير وانتهاج مفهوم وآلية جديدين يرتقيان إلى مستوى التحدي المتمثل في كيفية استغلال عناصر القوة الحالية لاقتصادنا إلى عناصر متجددة تضفي الحيوية دونما انقطاع لمختلف القطاعات. ولتحقيق ذلك فإنني أرى ضرورة مناقشة وبحث جملة من القضايا وذلك على النحو التالي:
مراجعة عاجلة للنمط التقليدي من التفكير، ووضع علامات استفهام لكثير من مسلماتنا الإدارية والاقتصادية، وإعادة صياغة مرتكزات جديدة للفكر الاقتصادي السعودي بما يستوعب ما أشرنا إليه من متغيرات بغرض التحكم فيها واستغلالها لتحقيق الأهداف والاستراتيجيات الوطنية بعيدة المدى.
إعادة هيكلة الجهاز الحكومي التنفيذي من حيث المفهوم والآلية والهيكل التنظيمي، وإعادة صياغة تفكير ومنهجية وثقافة جديدة للتنفيذيين بقطاعي الأعمال الحكومي والخاص.
النظر بجدية في هيكلة الشراكة القائمة بين القطاعين العام والخاص وتدشين آلية جديدة لهذه الشراكة بين الطرفين. وأرى أن القطاع الخاص بحاجة إلى تفهم الحكومة لاحتياجاته واهتماماته وتقدير الدور الذي يلعبه في الاقتصاد الوطني.
استحداث آليات مؤسسية ومهارات تكفل سرعة تطبيق ما يتم التوصل إليه من توجهات جديدة وترجمتها إلى نتائج ملموسة على أرض الواقع.
النظر في تشكيل فريق من المفكرين السعوديين يضم أكاديميين واستراتيجيين لدراسة التطورات وتقديم مقترحات بشأن التعامل مع مستجدات العصر وتطوراته بالفكر والآلية التي تناسبه، ورفعها إلى المجلس الاقتصادي الأعلى للنظر فيها.
يعنى هذا الفريق بابتكار أدوات وأساليب جديدة لإدارة التطورات الحالية (التي تتسم بسرعة التغيير) لصالح الاقتصاد السعودي، ومناقشة تلك التطورات وما ينبغي عمله تجاهها من خلال منتدى يضم فعاليات حكومية وأهلية أو من خلال تهيئة أي شكل من أشكال الحوار والتثاقف الاقتصادي.

مرحلة مختلفة
ولا بد من التنويه هنا أن ما تحقق من إنجازات مهمة لاقتصادنا الوطني يمثل أيضا في جانب منه حصاد سنوات طويلة من الإصلاحات الاقتصادية المستمرة والجهود المضنية التي بذلتها الدولة لتهيئة البيئة الاقتصادية المحلية والمناخ الاستثماري للمرحلة الحالية التي أكملنا فيها شروط التحول من المحلى إلى العالمي. وبفضل كل ذلك وإلى جانب ما حبانا الله سبحانه وتعالى من ثروات طبيعية فإن المملكة تدشن الآن مرحلة جديدة أرى أن من واجبنا استغلالها جيدا.
إن المراقبين لكل تلك التطورات مهمومون بما ينبغي عمله من قبل القطاع العام باتجاه ما أشرنا إليه من مراجعة للمسلمات الإدارية والاقتصادية وإعادة هيكلة الأجهزة التنفيذية. أما كيف يعيد القطاع الخاص صياغة سياساته في ظل التحولات الجذرية الماثلة؟ .. فهو الهم الذي يشغل بالنا جميعاً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي