شماعة أسعار البنزين
لمن سنحت له فرصة العيش في الولايات المتحدة فترة من الزمن، لا بد أنه لاحظ أن أسعار البنزين دائمة التغير بعكس ما نراه هنا في المملكة، فسعر الجالون اليوم قد يختلف عنه غداً أو بعد شهر، والأمر نفسه يجري على المشتقات النفطية الأخرى كالديزل ووقود التدفئة. لهذا لا نجد غرابة أن تبدأ الحملات الإعلامية القاسية على منظمة "أوبك" حالما تبدأ أسعار البنزين في الارتفاع أو تحقيق الأرقام القياسية. فالحجة السائدة عند الرأي العام الأمريكي المهتم بقضايا الطاقة أن "أوبك" هي المسؤول الأول والمباشر عن التغيرات في أسعار هذه المشتقات بحكم أن أسعار النفط الخام تعد أهم مدخلات التكلفة النهائية لأسعار هذه المشتقات. فربة المنزل الأمريكية أو سائق الشاحنة الأمريكي قد لا يهتم كثيراً بقضايا الطاقة قدر اهتمامه بكم سيحصل على بنزين يومه، وعندما لا يتأتى لهما ذلك تجده أذناً صاغية لما تمليه وسائل الإعلام من خلال محلليها من رمي اللوم على "أوبك" في زيادة تلك الأسعار, وهكذا تطورت الصورة النمطية لـ "أوبك" عند الرأي العام الأمريكي.
في الحقيقة، تشكل تكلفة النفط الخام المحدد الرئيس للسعر النهائي لجالون البنزين، حيث تمثل من 37 إلى 46 في المائة من السعر النهائي لجالون البنزين في الولايات الأمريكية ، بينما تشكل أرباح وتكلفة التكرير نحو 14 في المائة، وتشكل تكلفة وأرباح التسويق والتوزيع نحو 12 إلى 14 في المائة، بينما تشكل الضرائب من 28 إلى 36 في المائة من السعر النهائي للجالون (المصدر: وكالة معلومات الطاقة). بينما في أوروبا قد تصل قيمة الضرائب إلى 80 في المائة من السعر النهائي. ولكن أن تلام "أوبك" اللوم الكامل فهذا فيه الكثير من التجني على المنظمة.. هذا التجني أتت ردوده على لسان زير النفط السعودي عندما قال في أحد تصريحاته (بما معناه) "كفوا عن لوم "أوبك"".. وليعلم الوزير أن اللوم دائم ولن يتوقف! ولكن هذا لا يعني أن تمر "أوبك" مرور الكرام على مثل هذه الاتهامات، إذا ثبت إمكانية الرد عليها، ولا سيما أن "أوبك" تملك من المقدرات المعلوماتية والبحثية الكثير لتغيير هذه الصورة النمطية عنها.
نعم لا يمكن إنكار أن "أوبك" تعد أهم اللاعبين المؤثرين في أسواق الطاقة، غير أنها ليست المسؤول الوحيد عن كل ما يحدث في السوق, فهناك الكثير من العوامل الاقتصادية والسياسية والبيئية التي يصل حد تأثيرها في أغلب الأحيان المستوى الذي قد يحجّم دور "أوبك" في السوق، ولا أدل على ذلك من الارتفاعات القياسية الأخيرة في أسعار النفط. حيث خرجت الأمور عن سيطرة "أوبك"، رغم سعيها الدؤوب نحو السيطرة على تهيج السوق النفطية، ولكن الواقع أثبت محدودية قدرتها على ذلك.
لنعد إلى قضية أسعار البنزين في الولايات المتحدة، التي يمكن اعتبارها مقياسا لحنق الرأي العام الأمريكي على "أوبك" وأسعار النفط. إن من يتابع التغيرات في أسعار البنزين الأمريكية بشكل يومي ويقارنها بالتغيرات في أسعار النفط الخام، سيجد نوعاً من عدم التماثل بين حركتيهما. فالمنطق يقول إنه في حال ارتفاع أو انخفاض أسعار النفط الخام يجب أن تستجيب أسعار البنزين بالمستوى نفسه في حال الارتفاع أو الانخفاض. غير أن واقع سوق البنزين الأمريكية يقدم العكس، فعند ارتفاع سعر النفط الخام بنسبة ما، تجد أن محطات الوقود تسارع إلى رفع أسعارها مباشرة (قد تأتي تلك الاستجابة السعرية في اليوم التالي للارتفاع)، بينما في حال انخفاض أسعار النفط الخام بالنسبة نفسها تجد أن هذه المحطات بعينها تتلكأ في تخفيض أسعارها تلكؤا قد يدوم لأيام .. وهذا ما نقصده بعدم الثماثل في استجابة أسعار البنزين لتغيرات أسعار النفط الخام Asymmetric response، وهناك عدد من الدراسات التي أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك وجود هذه الظاهرة.
خلاصة القول، إن "أوبك" إضافة إلى أنها ليست المسؤول الوحيد عن تقلبات أسعار النفط، هي ليست بالتحديد مسؤولة عن كل ما يحدث لأسعار البنزين. فالعوامل البيئية والاقتصادية والضرائب المرتفعة التي تكافئ وفي الغالب تتجاوز تكاليف النفط الخام، إضافة إلى السلوك غير العادلة لمحطات الوقود في هذه الدول هي المسؤول الرئيس عما يحدث لأسعار البنزين في الولايات المتحدة وأوروبا, والتي عادة ما تثير الرأي العام في هذه الدول ضد "أوبك"، وبالتالي التأثير في الرأي العام العالمي.