Author

السعودة ليست قرارا إداريا

|
السعودة ليست قرارا إداريا يُسطّر ويصدّر بين عشية وضحاها. إنها خطة تنموية طموحة متكاملة وطويلة الأمد تُطبق على مراحل ويستغرق تنفيذها سنوات وعقودا. السعودة لا تطبق في فراغ وإنما تطبق في سياق اجتماعي متشعب الجذور تنغرس عروقه في أعماق التاريخ، وتطبق في مركّب ثقافي من القيم والعادات والتقاليد والمفاهيم والممارسات التي تتداخل في شبكة من العلاقات المتنوعة التي تتفاعل مع بعضها البعض، بمعنى أنه من الصعب أن تنجح السعودة إذا تركت بقية مكونات البناء الاجتماعي وعناصر النسق الثقافي على حالها. نجاح برنامج السعودة يتطلب عزيمة صادقة ورغبة حقيقية في إعادة هيكلة البنية الاجتماعية وإعادة ترتيب منظومة القيم والعادات والتقاليد والمفاهيم والممارسات التي تحكم السلوكيات وتوجّه التفكير، وهذا قرار سياسي قبل أن يكون قرارا إداريا وعبئا تتحمله أجهزة التعليم والإعلام. إنها مهمة تحويل مجتمع ريفي قبلي ثقافته تحتقر قيمة العمل المهني والحرفي وتعلو فيه اعتبارات تراتبية السلم الاجتماعي على اعتبارات تراتبية السلم الوظيفي، خصوصا ما يكتنفها من خضوع لرئيسك في العمل وتقبل أوامره والانصياع لها. إننا لا نزال ننظر إلى الوظيفة على أنها انتقاص من الحرية الشخصية والامتيازات العائلية التي تؤكد عليها قيم الصحراء والتي نتقيد بها بوعي أو دون وعي، كما أنها تجزئة لولاءات الفرد ومشاطرة لها بين الولاء للوظيفة بما تحتمه من استبعاد للجانب الشخصي في التعامل وبين الولاءات المحلية والعائلية التي كانت تحكم مجتمعنا حتى عهد قريب، والتي مهما حاولنا التظاهر بالابتعاد عنها فإنها لا تزال مدفونة تحت الجلد ومحفورة في اللاوعي. إنه نفس المنازعة بين الولاء الشخصي الملموس ذي المنافع المباشرة والمتمثل في الولاء المحلي أو القبلي وبين الولاء لشيء مجرد وبعيد اسمه الدولة أو المؤسسة. من الصعب على مجتمع مؤسس على التراتبية أن يتقبل مفهوم الوظيفة بمعناها البيروقراطي الصرف. فنحن لا نزال نقسّم الناس إلى مراتب حسب الانتماء العائلي أو العشائري أو الإقليمي أو الطائفي. وهذه المعايير الاجتماعية في التقييم، تقييم الشخص لذاته وتقييم الآخرين له، والتي تعتمد على الحسب والنسب، لا تتواءم مع المعايير الوظيفية في التقويم. بحياديتها وتجاهلها للخلفية العائلية والتركيز على المهارات المطلوبة للوظيفة. هنا يحدث تداخل مخل بين هذين النموذجين المختلفين في التقييم والتعامل، مما يؤدي إلى انفصام في الشخصية الوظيفية. في المكتب يخضع زيد لعبيد بحكم النظام الوظيفي، لكن خارج المكتب يخضع عبيد لزيد بحكم النظام الاجتماعي. كذلك في المكتب نجد زيد، ابن الذوات، إذا اضطر بحكم موقعه الوظيفي لخدمة زيد، المواطن البسيط، فإنه يفعل ذلك على مضض وبتأفف. يمكننا أن نشخص هذا الخلل بأنه خلل بنيوي ملازم inherent structural defect ناتج عن تضارب القيم والمعايير الاجتماعية مع القيم والمعايير الوظيفية. وهكذا يحدث الاضطراب وعدم التوافق بين المعايير. نجاح السعودة يتطلب إيجاد مخرج من هذه المعضلة. إنها مراهنة ومغامرة لكل من العامل وصاحب العمل، كلاهما يصعب عليه التخلي عن القيم الاجتماعية التي أدت وظائفها في الماضي بطريقة مرضية وتبني القيم الوظيفية الحديثة التي لا تزال تحت المحك بالنسبة لكلا الطرفين. يُفترض في الوظيفة أن تمنح الفرد الاستقلالية الذاتية والاعتماد على الذات مما يخفف من اعتماده على العلاقات الاجتماعية، وبالتالي ضمور هذه العلاقات نظرا للتوقف عن تفعيلها أو عدم فاعليتها ومن ثم التخلي عن القيم المرتبطة بها. سيادة القيم الوظيفية إلى درجة تؤهلها لتحل محل القيم الاجتماعية يتطلب دعم الثقة بالقوانين والتنظيمات الوظيفية واحترامها واحترام العقود بكل بنودها التي تضمن حق الطرفين وتوفير إمكانية الحصول على حل قضائي عاجل وعادل لحل النزاعات العالقة بين الطرفين حسبما يمليه العقد وقوانين العمل مما يمنح الأمان والثقة للعامل وصاحب العمل. المعضلة الأخرى التي ينبغي الخروج منها لنجاح برنامج السعودة هي فك التنازع بين الالتزامات الوظيفية والالتزامات الاجتماعية. لو كنا منصفين لاعترفنا أن طبيعة التزاماتنا الاجتماعية مرهقة ويصعب على موظف بسيط بإمكانياته المحدودة التوفيق بين التزامات الوظيفة والتزامات العائلة والأهل والأصدقاء. الالتزامات العائلية والمسؤوليات الاجتماعية الملقاة على عاتق الرجل السعودي تنوء بها الجبال. ما أتحدث عنه هنا هو الموظف البسيط ذو الإمكانيات المحدودة. أما الموظف الكبير أو المدير فإنه بحكم موقعه وإمكانياته لديه في مكتبه جيش من الموظفين الصغار وفي بيته ثلة من الخدم والحشم يقومون على خدمته ويكفونه القيام على مشاويره وعزائمه وسهراته وشؤون حياته اليومية. دعنا نضرب صفحا عن الصورة التقليدية للموظف التي ترسمه إنسانا بسيطا جاء من قريته البعيدة إلى الرياض أو جدة ليعمل بمرتب زهيد، وأصبح بيته محطة لا يتوقف المتقاطرون عليها من أبناء قريته الذين يقدمون إلى المدينة لأسباب مختلفة. وحتى لو تجاهلنا هذه المسألة فلن نستطيع تجاهل أن هذا الموظف الصغير يقضي نسبة لا بأس بها من وقته وجهده سعيا وراء التعقيب على معاملات ومتطلبات تتعلق به وبمن يعولهم ويقوم عليهم مع مختلف المؤسسات الاجتماعية والدوائر الحكومية والمرافق العامة. والحمل هنا مضاعف على الموظف، هذه الدوائر والمؤسسات والمرافق نادرا ما تعمل بالكفاءة التي تسمح للمراجع أن يحصل منها على الخدمة المطلوبة بشكل يوفر وقته وجهده ليتفرغ لعمله الوظيفي. وإضافة إلى ذلك هو أيضا مضطر بحكم طبيعة قوانيننا وأنظمتنا أن يراجع هذه المؤسسات والمرافق فيما يخصه هو وما يخص أهل بيته وزوجته وبناته. كل ما يخص النساء في الشأن العام يستلزم حضور الرجل أو إنابته، فلا بد للرجل أن يقضي شؤونه وشؤون محارمه. لقد ألقينا على كواهلنا عبئا ثقيلا بحبسنا الثقة عن المرأة. والخسارة هنا أيضا مضاعفة. تصور كم من الوقت والجهد سيوفره الرجال لو حررنا هذه الطاقة البشرية، النساء، وأصبحت الواحدة منهن قادرة على قضاء شؤونها بنفسها، ولنترك مسألة عفتها وعفة سلوكها لأهل بيتها الذين هم المسؤولون أساسا عن ذلك. الالتزامات العائلية والاجتماعية لا تقضم وقت الموظف وجهده فقط، بل تستنزف دخله مما يرفع من مستوى صرفه النقدي بما لا يتلاءم مع المرتب الوظيفي الذي يمكن أن يحصل عليه حسب المعايير العالمية أو حسب آليات سوق العمل ومتطلباتها، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار حجم العائلة السعودية الذي قد يصل إلى ثلاثة أضعاف حجم العائلة في المجتمعات الصناعية. توظيف عامل براتب قيمته أعلى من قيمة ما ينتجه أمر يتنافى تماما مع كل المفاهيم الاقتصادية والممارسات التجارية التي هدفها تحقيق الأرباح والنمو المطرد. ومن غير المنطق ولا من مصلحة الاقتصاد الوطني أن يضحي صاحب العمل باسم الشعارات الوطنية ويوظف عمال تكلفتهم أكثر من مردود إنتاجهم. وحيث إن نظامنا الاجتماعي يعاني أصلا من الهدر والنزيف، فإن مفهوم الحد الأدنى من الأجور حسب آليات العرض والطلب، وكما يطبق في الدول الصناعية يصعب تطبيقه عندنا، لأن ما سيحصل عليه الموظف لن يكفي لإعاشته عيشة كريمة وفق ما تمليه الالتزامات الاجتماعية الملقاة على كاهله. تصور المكاسب التي يمكن تحقيقها لو قدّرنا أنه سمح للمرأة بالقيادة فقط، دع عنك الأمور الأخرى التي لم يحن وقت الحديث عنها بعد، قد يؤدى هذا إلى الاستغناء عن نسبة كبيرة من سائقي البيوت وتخفيض عدد السيارات أوقات الذهاب والإياب من الوظائف والأعمال وتقليل عدد السيارات العائلية. توفير راتب السائق والغرفة التي تخصص للسائق في البيت وربما الاستغناء عن إحدى السيارات سوف ينتج عنه خفض تكاليف معيشة الموظف، وبالتالي هذا سوف يساعد في تخفيض مرتب الموظف السعودي إلى المستوى التنافسي. السعودة هدف نبيل القصد منه أساسا دفع عجلة الاقتصاد الوطني ورفع قيمة الناتج المحلي. ولكن إذا كانت السعودة سوف تقود إلى عكس ذلك، فهناك خلل ينبغي اكتشافه ومعالجته أولا وقبل الحديث جديا عن السعودة. رفع السعودة كشعار سياسي أو جماهيري قد يكون فيه تجاهل لتعقيدات التطبيق في الواقع الاقتصادي. الشيء الأكيد أن نجاح السعودة مرتبط بحدوث تغيرات أخرى في منظومة القيم الثقافية والعلاقات الاجتماعية تنقلنا من مجتمعات قبلية وريفية، وتهيئنا لدخول عالم الكوربوريشن اقتصاديا وعالم الميتروبوليتان حضريا وعمرانيا. التغيير هو ثمن التذكرة الذي علينا أن ندفعها لدخول هذه العوالم العصرية. ثم لا ننسى دور المؤسسات التربوية والمعاهد الفنية في تأهيل القوى العاملة من الشباب السعوديين. لقد انشغلت هذه المؤسسات والمعاهد بقضايا وشؤون ليست من شؤونها، وكان ذلك على حساب رسالتها التعليمية. وها نحن نجني نتائج تلك السياسة التعليمية الفاشلة. بلد يتسارع نموه وتتشعب مصالحه وتتضخم إداراته وحاجاته من القوى البشرية العاملة ومع ذلك لا تستطيع مؤسساته التربوية ومعاهده الفنية الوفاء بهذه الحاجة وفق المستويات والمؤهلات المطلوبة. [email protected]
إنشرها