ما بعد الموازنة..
الإحساس الذي طغى بين الناس مع الإعلان عن الأرقام المبهجة التي ظهرت بها الموازنة الحكومية الجديدة, ذكرهم ببداية عهد الملك خالد الزاهر, يرحمه الله . وقد شاءت إرادة المولى سبحانه وتعالى أن يجري هذا الخير الجديد مع بداية عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله, حفظه الله, ليزيد من شعبيته بين مواطنيه ويرسخ أجواء التفاؤل بعهده المشرق, إن شاء الله.
جاءت أرقام الموازنة الحكومية الجديدة لتعطينا بارقة أمل جديدة, في أن حسن استغلال هذه الوفورات سيساعدنا على الانطلاق باقتصادنا نحو إعادة هيكلة جادة تمكننا من تحقيق هدفنا الاستراتيجي المتعلق بتنويع مصدر دخلنا الوطن . وهو أمر يستدعي الاستمرار الجاد والحثيث في طريق الإصلاحات الاقتصادية التي تهدف لتطوير وتحسين بيئة الاستثمار وتشجيع زيادة مساهمة القطاع الخاص والعمل على تقليص دور الحكومة المباشر في ممارسة النشاط الاقتصادي من خلال الإسراع في برامج التخصيص, لرفع كفاءة الاقتصاد وجذب الاستثمارات وتوليد فرص عمل جديدة لتقليص معدلات البطالة واستيعاب الأعداد الجديدة من طالبي العمل .
وجاءت ميزانية هذا العام لتؤكد استمرار تحول ميزانية الدولة للسنة الثانية على التوالي من ميزانيات كانت تستغرقها الرواتب والنفقات التشغيلية الأخرى (البابان الأول والثاني) إلى موازنات تتضمن برامج إنفاق استثماري طموحة في قطاعات الاقتصاد كافة. كان أعلاها في قطاعي التعليم والصحة لما لهما من تأثير مباشر في رفاهية القطاع العريض من المواطنين، تلتهما القطاعات الأخرى المتعلقة بالمنافع والخدمات العامة, إضافة إلى الزيادات التي خصصت لصناديق التنمية العقارية والصناعية والتسليف.
عندما صدرت ميزانية الدولة قبل سنة, كانت وزارة المالية قد قدرت الإيرادات العامة بنحو 280 مليار ريال. وقلت حينها, مع غيري من المهتمين, إن هذا التقدير متحفظ جدا. وتوقعت أن الإيرادات ستكون بحول الله أعلى بكثير من هذا الرقم, لأنه حتى لو كان تقدير وزارة المالية مبنيا على سعر 25 دولارا لبرميل النفط, فان الإيرادات ستصل إلى 385 مليار ريال على أقل تقدير وليس فقط 280 مليار ريال. وكانت تقديراتي مبنية على أساس أن البلاد كانت تنتج نحو 9.5 مليون برميل يوميا, وعليه فإن (9.5 مليون برميل× 25 $ × 365 يوما × 3.75 ريال = 325 مليار ريال + 60 مليار إيرادات غير نفطية = 385 مليار ريال كإيرادات إجمالية).
وبالفعل فقد أظهرت البيانات التي أعلنتها وزارة المالية الآن أن إيرادات العام المالي 1425/1426 بلغت نحو 555 مليار ريال. بزيادة بلغت نحو 275 مليار ريال عما كان متوقعا في بداية العام. (555 – 280 = 275 مليار ريال).
ومع أن مصروفات الدولة الفعلية ارتفعت هذا العام إلى نحو 341 مليار ريال عن النفقات التي كان مخططا لها في بداية السنة المالية التي قدرت حينها بمبلغ 280 مليار ريال (بسبب زيادة الرواتب, والنفقات الإضافية التي اعتمدت لاحقا لبعض مشاريع المشاعر المقدسة, وتسديد إعانات المزارعين المستحقة لهم عن سنوات سابقة, إضافة إلى بعض المصاريف الأمنية الطارئة) فقد تحقق - مع كل ذلك - فائض قياسي في الموازنة لم يسبق تسجيله حتى في عام 1400 هـ (1980) بلغ نحو 214 مليار ريال. وهو ما سوف يوجّه, كما جاء في بيان وزارة المالية, لتنفيذ مشاريع جديدة, وزيادة رأسمال بعض صناديق التنمية, وتسديد جزء من الدين العام الذي تراكم خلال السنوات العجاف الماضية.
وتأتي مسألة تسديد الدين العام كواحد من أهم المؤشرات الإيجابية اللافتة في الموازنة الحالية, إذ إنه سينخفض إلى نحو 475 مليار ريال بنهاية العام المالي الحالي 1425/1426هـ, ليشكل نحو 41 في المائة فقط من حجم الناتج المحلى الإجمالي بعد أن كان في حدود 66 في المائة قبل عامين. وحيث إن المؤسسات الاقتصادية الدولية تعتبر الحد الأقصى المقبول للدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في حدود 60 في المائة فإن هذا الانخفاض في الدين العام سوف يرفع من درجة تصنيف وجاذبية الاقتصاد الوطني. وإذا استمر الحال على هذا المنوال فإنه يتوقع أن نتمكن من تسديد الدين العام في بحر سنوات قليلة جدا, بعد أن كان هاجسا مقلقا في السنوات الماضية.
وعلي الرغم من معدل النمو العالي الذي تحقق في الناتج المحلي (6.8 في المائة), فإن ذلك يجب ألا يحجب عنا حقيقة البنية العامة لاقتصادنا الذي مازال يحتاج إلى برامج تنمية نوعية شاملة ومتوازنة تشمل مختلف مناطق البلاد, فالتنمية ليست مجرد زيادة مخصصات الإنفاق بقدر ما هي أيضا برامج نوعية مدروسة تضمن توسيع وتنويع القاعدة الإنتاجية لاقتصادنا, يضمن إحداث تغيير هيكلي في المفاصل الرئيسة للاقتصاد بحيث يسمح ببناء اقتصاد ثابت قليل الاعتماد على المتغيرات الخارجية, فحتى معدلات النمو الإيجابية في القطاع غير النفطي التي أظهرتها البيانات الاقتصادية ما كانت لتكون لولا نمو القطاع النفطي ذاته! وسيظل الحال كذلك ما لم يتغير هيكل وطبيعة اقتصادنا من اقتصاد ريعي يعتمد على استخراج وتصدير الثروات الطبيعية إلى اقتصاد إنتاجي قادر على خلق قيم مضافة على هذه الثروات, عن طريق استحواذ التقنية وبناء الطاقات البشرية المؤهلة, وإقامة الأنظمة الإدارية والقانونية الملائمة لمرحلة الانطلاق والتغيير الذي تستوجبه ظروف انضمامنا لمنظمة التجارة الدولية.
إنني أتمنى أن نحدد مجالا أو اثنين ونعطيهما أقصى تركيز واهتمام نوعي يتعدى مجرد الزيادة التقليدية في الاعتمادات المالية, كأن نركز مثلا علي قطاعي التعليم والخدمات, فنصمم برامج متكاملة تعمل على تحسين نوعية التعليم من خلال بناء مؤسسات نوعية جديدة حتى لو بدأت بمؤسسات محدودة ثم تتوسع بشكل مدروس مع الزمن. وكذلك نوجه جهودا تطويرية ونوعية أخرى لقطاع الخدمات ليكتسب ميزة نسبية تسمح بتوسيع نسبة مساهمته في الدخل الوطني. خاصة أن هذا القطاع مرشح لكي يولد فرص عمل جديدة وجذابة أمام طالبي العمل من السعوديين, مثل قطاع الخدمات المصرفية والمالية, الذي كان أكثر القطاعات جذبا لقوى العمل الجديدة في السنوات الأخيرة. وكذلك خدمات التأمين وخدمات السياحة بما فيها الخدمات الصحية, مستفيدين من ميزة السوق السعودية التي تعتبر الأكبر في المنطقة .
إن تجارب التنمية الناجحة تدل على أن سر النجاح إنما يكمن بشكل أساسي في امتلاك رؤية اقتصادية واضحة عند التخطيط, والعمل بعزيمة مهنية ماضية عند التنفيذ, والتحلي بإرادة مخلصة صادقة عند المتابعة. باختصار, إننا في حاجة, كما أكد ذلك ولي أمرنا, إلى حسن إدارة ما بأيدينا والتخلص من كل فساد يؤذينا. إن نجاح دول صغيرة في الإدارة الاقتصادية الفذة يعطينا بارقة أمل قوية أن النجاح لا يقتصر على الدول المتقدمة فقط.