حكمة من الصيـــن

قبل نحو أسبوعين عدت من الصين بعد زيارة قصيرة للمشاركة في منتدى اقتصادي رعته مجلة Business Week, وامتدت جلساته على مدى يومين. جاء الحضور السعودي متميزا حيث شارك في فعاليات المنتدى عدد كبير من رجال الأعمال والقنصل السعودي في هونج كونج والهيئة العامة للاستثمار مثلتها فتاة سعودية بدت شعلة من النشاط في عرض الفرص المتاحة أمام الشركات الصينية للاستثمار في المملكة ساعدها في مهمتها قدرتها على التخاطب معهم بلسانهم.
كان للمملكة حضور متميز بشكل آخر أيضاً في المنتدى الذي صادف موعد انعقاده استكمال مراسم الإجراء الأخير لانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية، فقد استحوذ هذا الإنجاز على حيز كبير من اللقاءات الجانبية. ومن تلك اللقاءات عرفنا شيئاً عن العراقيل التي واجهت المملكة في مسيرتها للانضمام إلى المنظمة كما رواها لنا البعض ممن كانوا في قلب الحدث من داخل المنظمة. سمعنا قصصاً عجيبة عما عانته المملكة من مواقف بعض الأعضاء والتناقضات الصارخة بين ما كان يعلنه زعماء تلك الدول على الملأ وبين ما كان يقدمه مندوبوهم في اجتماعات المنظمة من مضايقات ومنغصات. بالطبع كان الحديث الذي سمعناه من أولئك المسؤولين السابقين في المنظمة أو القريبين منها فيه قدر ملموس من المودة والتعاطف مع المملكة، ولا أدري إن كانت تلك هي مشاعرهم في الماضي عندما كانوا في مركز القرار أم أنه تسري عليهم مقولة "النجاح له أكثر من أب أما الفشل فلا أب له"! لم أسألهم عن ذلك إذ يفُترض أن تكون لدى المرء فراسة تغنيه عن طرح مثل ذلك السؤال.
لم يقتصر الحضور المعنوي للمملكة على اللقاءات الجانبية فقط بل امتد إلى جلسات المنتدى الرسمية أيضاً، فقد كانت المملكة لما لها من ثقل اقتصادي وانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية من المواضيع الحاضرة في أذهان المشاركين وعلى ألسنتهم ما دعا الكثير منهم إلى الإشادة بخطوة الانضمام والحديث عن التحديات التي ستواجهها المملكة وغيرها من الأعضاء الجدد في المنظمة للتأقلم والتعايش مع قوانين اللعب المتشابكة في ساحة تضم حتى الآن 149 لاعباً. وعندما جاء دوري للحديث، أطلقت العنان لمشاعري دون تصنع أو تكلف. قلت لهم إن المملكة في سياق سعيها للانضمام إلى منظمة التجارة حققت الكثير من المكاسب لمواطنيها، وذكرت لهم بعضاً من الإصلاحات الاقتصادية التي تم إرساء قواعدها وفق معايير من الشفافية والإفصاح لا تقل عما هو معمول به في الدول الأخرى الأعضاء، من بينها تحديث ومراجعة أكثر من 40 نظاماً لتحسين البيئة التجارية وحماية الحقوق الفكرية وغيرها مما يصب في المحصلة النهائية في مصلحة المواطن. أما بالنسبة للمستقبل فإنني أنظر إليه بكثير من التفاؤل إذ أرى في إزالة الحواجز التجارية وفتح باب المنافسة نافذة واسعة لتوطين استثمارات كبيرة في بلادنا وتوفير فرص عمل واعدة تستحق أن يتطلع إليها شبابنا، باختصار شديد نحن مقبلون على مرحلة جديدة، إن حسنت إدارتها، ستكون مملوءة بالفرص, بإذن الله.
وفي الجانب الثقافي للرحلة، وعلى الرغم من الجدول المكثف لجلسات المنتدى وفعالياته من الثامنة صباحاً حتى الثامنة مساء استطعت تلبية دعوة لحضور حفل غداء في المدينة المحّرمة The Forbidden City تلقيتها من المؤسسة الصينية للمحافظة على التراث وهي مؤسسة خيرية تعتمد على تبرعات الصينين في المهجر. كانت مناسبة الغداء الاحتفال بالانتهاء من أعمال إعادة بناء حديقة قصر جيانفو الإمبراطورية Jianfu Palace Garden التي تم إحراقها نتيجة أعمال شغب واسعة شهدتها الصين عام 1923. واستغرقت عملية إعادة البناء عشر سنوات بحرص شديد على الالتزام بالشكل الأصلي بما في ذلك الزخارف والألوان التي ازدانت بها منشآت الحديقة قبل نحو قرن من الزمان، وجاء العمل متقناً على الرغم من ضياع الكثير من المخططات والمراجع التي سجلت تفاصيل هذا الجزء من المدينة المحرمة في بكين. ومما تعلمته في هذه الزيارة أن هذه المدينة اكتسبت اسمها من تاريخها في الماضي, إذ كان محرماً على أبناء الشعب دخولها.
لقد لفت نظري في مشروع إعادة بناء حديقة ذلك القصر، عدا جمالها وروعة زخارفها، الجانب الإنساني في حرص المواطن الصيني على المساهمة في الحفاظ على تراثه، والأكثر لفتاً للنظر أن معظم المتبرعين مقيمون خارج وطنهم الأم بمعنى أن البعد الجغرافي لم يخلق جفوة بينهم وبين تراثهم. وعلى الرغم من أن كلمة مضيفنا الترحيبية كانت طويلة نسبياً (نحو ساعة) إلا أنني اختزنت منها في ذاكرتي عبارة رددها أكثر من مرة وهي أن من أهم المؤشرات على الرقي الاقتصادي لأمة ما هو مدى عنايتها بتراثها وضرب لنا الصين مثالاً لذلك .. فقد دمروا بعضاً من تراثهم قبل نحو مائة عام في سياق الفوضى التي كانت تعم أرجاء وطنهم، واليوم يعيدون بناء هذا التراث واقتصادهم يسير بخطى متسارعة نحو موقع متقدم بين العمالقة في العالم. ترى هل تشاركون مضيفنا رؤيته في الربط بين رقي اقتصاد الأمة وعنايتها بتراثها؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي