ملف الإرهاب والموقف الأمريكي من القضية الفلسطينية

من الواقعي عند الحديث اليوم عن الصراع العربي – الإسرائيلي ومحاولات التوصل لحل له أن ينصب الحديث أولاً على التصور الأمريكي لذلك الصراع والجهود التي تبذلها واشنطن لحله، نظراً للمكانة الدولية الحالية للولايات المتحدة ونزوعها الدائم لاحتكار الجهود الدولية لحل ذلك الصراع ورفضها شبه المستمر لمشاركة أطراف دولية أخرى معها في تلك الجهود. ولا شك أن هناك أيضاً عوامل أخرى تدفع إلى التركيز أولاً على التصور والجهود الأمريكية تجاه حل ذلك الصراع، سواء تلك التي تتعلق بالعلاقات الوطيدة التاريخية التي تربط الولايات المتحدة بإسرائيل أو تلك التي تتعلق بالتطورات الأخيرة في النظام الدولي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) وفي مقدمتها الاحتلال الأمريكي – البريطاني للعراق، الذي أضحت الولايات المتحدة بموجبه فاعلاً مباشراً في الشرق الأوسط وليس مجرد قوة عظمى تمارس نفوذها فيه عن بعد.
وقد اتسمت السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي ـ الإسرائيلي بعدة خصائص سواء من الزاوية الهيكلية أو خلال فترة حكم الرئيس جورج دبليو بوش، معظمها يعوق التوصل لحل دائم وشامل وعادل لهذا الصراع. فبالنسبة لسياسة إدارة الرئيس بوش تجاه الشرق الأوسط عموماً وذلك الصراع خصوصاً، يبدو واضحاً أنها مرت بمرحلتين متمايزتين: الأولى سبقت وقوع الهجمات على واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، والثانية تشكلت ملامحها في ضوء التصورات الأمريكية لأبعاد تلك الهجمات وما يمكن أن يربط الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي بها.
فبوقوع هجمات أيلول (سبتمبر) لحقت بالسياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والعالمين العربي والإسلامي خصوصاً وتجاه العالم كله عموماً تغيرات جوهرية لا تزال ملامحها تتوالى حتى اليوم. فقد تأثرت علاقة واشنطن ببلدان الشرق الأوسط والعالم العربي بشدة بإعلان الولايات المتحدة حربها ضد ما تطلق عليه "الإرهاب" وبدت مختلفة من جوانب عديدة عما كانت عليه قبل تلك الهجمات. كذلك فإن القضية الفلسطينية عرفت هي الأخرى خلال ذلك العام تطورات جديدة بعضها غير مسبوق في سنوات ذلك الصراع الطويلة. وبنظرة أكثر عمومية على المشهد في العالم العربي والشرق الأوسط بعد اندلاع أزمة أيلول (سبتمبر)، تبدو التغيرات في العلاقات الأمريكية بالعالم العربي وفي مسار القضية الفلسطينية مرتبطة إلى حد بعيد ببعضها إلى حد التطابق في بعض الأحيان.
وقد نتجت تلك التغيرات سواء في العلاقات الأمريكية ـ العربية أو في القضية الفلسطينية من التغير الكبير الذي نتج عن أحداث أيلول (سبتمبر)، ويتعلق بالدور المحوري الذي اتهمت به واشنطن عدداً من مواطني بعض الدول العربية الوثيقة الصلة بها في هجمات أيلول (سبتمبر) وفي ما تسميه شبكة الإرهاب الإسلامي الدولية. وقد كانت مصر والسعودية في مقدمة تلك الدول الحليفة التي اتهم عدد كبير من مواطني كل منهما بالضلوع بأدوار رئيسية ومهمة في تفجيرات أيلول (سبتمبر) وفي شبكة القاعدة. وقد أدى ذلك التغير الجوهري إلى دفع السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والعالم العربي إلى مزيد من الانفراد سواء في صياغة أو تطبيق القرارات والسياسات المتعلقة بهاتين المنطقتين، ومزيد من الاستغناء عن الحلفاء التقليديين لواشنطن فيما يخص الصياغة أو التطبيق. وتبدو تطورات القضية الفلسطينية خلال تلك الفترة نموذجاً واضحاً على ذلك الانفراد والاستغناء الأمريكي عن الحلفاء العرب التقليديين، سواء كانت مصر أو السعودية أو الأردن، حيث أصرت واشنطن خلاله على عدم الإقرار بأي أدوار لأي منهم ورفضت مراراً معظم الاقتراحات أو التصورات التي اقترحوها من أجل تهدئة الأوضاع المشتعلة على الصعيد الفلسطيني – الإسرائيلي، واكتفت بالاستماع إلى بعضها دون أن تحولها إلى سياسات تشركهم في تنفيذها كما كان الحال أحياناً خلال مرحلة إدارة الرئيس كلينتون.
وقد نتج عن ذلك على صعيد القضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي عموما تبني الإدارة الأمريكية تداخلاً غير منطقي أو مبرر بينهما كملفات سياسية وبين ملف "الإرهاب" الذي أضحى الهاجس الأول لواشنطن في سياستها الخارجية عموماً. فنتيجة للضغوط السياسية والانتخابية الهائلة التي تمارسها الدولة العبرية واللوبي الصهيوني واليهودي في الولايات المتحدة على إدارة الرئيس بوش، اندفعت تلك الأخيرة لكي تتبنى الرؤية الإسرائيلية فيما يخص منظمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية باعتبارها وجهاً فلسطينياً لظاهرة "الإرهاب" الدولي التي تتصدى الولايات المتحدة لمحاربتها. وقد نجحت تلك الضغوط في إقناع صانع القرار السياسي والأمني الأمريكي بأن العمليات الاستشهادية التي تقوم بها تلك المنظمات لا تختلف في شيء عن الهجمات الإرهابية التي استهدفت واشنطن ونيويورك، مستغلة تشابه تلك العمليات من الناحية الشكلية مع الهجمات في خلق مقارنات ومشابهات مصطنعة ومتعمدة بين "الاستشهاديين" الفلسطينيين الذين يقومون بهذه العمليات، وبين "الإرهابيين" الذين اتهموا بتنفيذ تلك الهجمات. ولا شك أن هذا التداخل المصطنع بين هذين الملفين المنفصلين تماماً لم يضع فقط عبئاً إضافياً على الأجهزة الأمنية الأمريكية في رصد وتتبع منظمات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، بل ونتج عنه تعقيد الموقف السياسي والأمني في مسرح الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي الذي امتد بدوره إلى مناطق الشرق الأوسط والخليج والعالم العربي وربما مناطق أخرى أبعد في العالم، كما أنه دفع إدارة الرئيس بوش إلى تبني رؤى ومواقف سياسية تجاه هذا الصراع متأثرة للغاية بحربها هي ضد ما تسميه "الإرهاب".
إن هيمنة ملف الحرب ضد الإرهاب على السياسة الخارجية الأمريكية خلال فترتي حكم الرئيس بوش وهيمنة جماعات الضغط اليهودية والصهيونية الموالية لإسرائيل على الإدارة الأمريكية، هما العائق الرئيسي اليوم أمام تبني تلك الإدارة مواقف وحلولاً موضوعية ومنصفة للقضية الفلسطينية. ولا شك أن فك الاشتباك والتداخل المصطنع بين ملف الإرهاب الدولي والقضية الفلسطينية يعد اليوم المهمة الرئيسية الواجب على صناع القرار العربي القيام بها حتى يحرروا الإدارة الأمريكية من أسر هذا التداخل ويدفعون بها نحو تبني مواقف أكثر موضوعية وحياداً تجاه القضية الفلسطينية والصراع العربي - الإسرائيلي على وجه العموم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي