صناعة القائد.. أزمات متلاحقة!
يتخذ القياديون عدة أنماط في تحركاتهم السلوكية والمهنية في عالم المال والأعمال، فمنهم المبدع والنمطي وكذلك المتأرجح بين طرفي تلك المعادلة يمنة أو يسرة، وللقادة صفات وخصائص تنطبع في شخصياتهم وتنحفر في ميولهم وأمزجتهم، وتلك الخصائص تأخذ خطاً تملي على هذا القائد تصرفاته وحركاته وسلوكياته، وللمصادر الثقافية والتعليمية والخبراتية وللعادات والأعراف دور في تشكيل ذهنية ومعتقد هذا القائد، إذ إن تلك المصادر هي المرتكز الذي تقوم عليه العقلية الذهنية والمعتقد السلوكي، وفي عالمنا العربي يتشكل القائد طبقاً للعشوائية والعبثية التلقائية التي تقوم على تشكيل الأشخاص وفق تعاقبات الليل والنهار وقوانين المصادفة والتنجيم، لا تقوم صناعة القائد لدينا على المنهجية الواعية والتصرفات الداخلة تحت دوائر العلم والمعرفة والتأسيس والتأصيل لتلك الصناعة، بل إن صناعة القائد في العالم العربي هي صناعة مُغيبة تقوم على لعبة السيرك والفهلوة لا على قاعدة التأسيس والمنطق والعلم، يبالغ كثير من الناس عندما يصفون واقعنا المعاش في عالمنا العربي المرخي ذيوله على إهمال صناعة القائد بأنه عالم وردي ومحلق وهذا وصف غير دقيق ويبتعد عن لغة المنطق والعقل. في قطاعاتنا المالية يتقلد القادة مناصبهم بناءً على الخبرة أو التجربة والتعليم أو على الهمسات التي تصل المسؤول عن التعيينات بأن فلاناً كفء وعلاناً يستحق، ثم تبدأ عملية التعيين دون النظر في كثير من المعايير التي يجب أن يتحلى بها ذلك المرشح لهذا المنصب، ومن أهم تلك المعايير أن يكون القائد متفتحاً على العالم ويملك صورة ذهنية رائعة تقوم على تعدد المصادر والثقافات وأن تكون لديه القدرة على تحريك الفريق بالشكل الذي يعطي أولئك العاملين الجو والبيئة الدافعة للعمل لا المحبطة والمدمرة للإبداع والتفوق، وكذلك يجب أن يخضع هذا القائد لكافة مراحل القياس البدنية والنفسية والصحية, وأؤكد هنا الجانب النفسي الذي هو من الجوانب المسكوت عنها في عالم المال والأعمال في عالمنا العربي، بل إنه عامل لا يؤخذ بالاعتبار بل لا تقوم عليه أسس التقييم واشتراطات التوظيف. إن ما يؤسف له في عالمنا العربي أولئك القادة القابعون في الشركات والمصانع الذين يعانون من كثير من الأمراض النفسية التي جلبوها معهم وجلبوا ذيولها وظلالها داخل مكاتبهم وفي أحضان كراسيهم. إن المتتبع لتصرفات كثير من القادة الذين يملكون القرارات الاستراتيجية للشركات والمصانع والمنشآت الكبيرة يجدهم على حالة عدم توازن في قراراتهم الاستراتيجية فبين مصاب بآفة الحقد والحسد وآخر بآفة الغيرة والقمع وبين ثالث مصاب بداء الغطرسة والتكبر ورابع بداء الحرب والضرب "تحت الحزام" وخامس مصاب بداء مرض التطهير والإخلاء من كافة الكوادر المؤهلة التي تسبب لذلك القائد المصاب بالهوس النفسي الرعب والخوف من أولئك الأشخاص الذين ابتلوا بمثل هؤلاء القادة، هناك دراسات تؤكد على المرؤوسين في العالم العربي يتعرضون لكثير من القمع والتهميش والإقصاء وقتل الإبداع والطموح ويعيشون تحت تأثير الدوائر السلبية والبيئات الخانقة والنوافذ المغلقة التي توجد من أولئك المرؤوسين أناسا سلبيين ومسلوبي الإرادة وفاقدي عنصر الإبداع والمغامرة والثقة بالنفس، لذلك وُجد أن كثيرا من المرؤوسين الذين يترقون تحت عامل ولعبة الحظ والمصادفة أو رغم رغبات الرؤساء أنهم لا يستطيعون أن يتعاملوا مع الموقع الجديد بكثير من الثقة أو مساحات الحرية والإبداع, بل تجدهم منكفئين على أنفسهم ومرتبطين بحبل سري مخفي مع رؤسائهم بحيث لا يجرأون على الخطوات الصغيرة أو الكبيرة إلا بعد الرجوع إلى رؤسائهم وقادتهم، لذلك نجد أن صناعة القائد في بيئة القطاع الخاص هي صناعة مشوهة ولم تكتمل, بل إنك تكاد لا ترى الجنين في بعض الأحيان إلا بأبعاده الناقصة وغير المكتملة. البيئة في عالم المال والأعمال تؤكد وأد الإبداع والانطلاق وغرس الثقة وأعتقد جازماً كذلك أن البيئة في المنزل والمدرسة والشارع تؤكد هذا المنحنى بل تعزف عليه ليل نهار لتخرج لنا سيمفونية حزينة عنوانها قتل الإبداع والثقة بالنفس، ليتني أستطيع أن أملك عصا سحرية أو خاتم سليمان لأصنع بيئة تفعّل ذلك المنحنى وتؤكد عليه وتدفعه نحو النجاح والتقدم. بين القائد والنجاح علاقة متلازمة لا ينفصل طرفا تلك العلاقة بعضهما عن بعض فهي علاقة متلازمة ومؤكدة نجاح القائد هو نجاح للمنشأة والمصنع والمتجر والمدرسة والمنزل..، ونجاح كل ذلك هو من نجاح القائد، سأكرر هنا ما ذكرته في كل المناسبات والندوات والمحاضرات والمقالات أن يكون هناك اهتمام ببناء وصناعة القائد منذ الصغر في المدارس والمنازل، وأن تتبنى وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي هذا الموضوع خير تبن لما له من الخير الكبير على هذا البلد الغالي علينا جميعاً، هنالك كليات تعنى بالإدارة والاقتصاد والقانون لماذا لا تكون هناك كليات تعنى بتخريج القادة وبنائهم وصناعتهم لنوجد مجتمعاً سوياً وقوياً يقوم بعد اعتماده على الله على أبنائه المخلصين والمحبين لهذا الوطن العظيم؟ لماذا تخرج النتائج غير مكتملة ومشوهة وناقصة فلندرس ونحلل أين يكمن الخلل؟! ثم نقوم بوضع اليد على الجرح والألم حتى يتم العلاج ومن ثم الشفاء، هناك أزمة حقيقية في بناء وصناعة واستنبات وتخريج القائد، أزمة في صناعته وأزمة في استنباته وأزمة في المحافظة عليه وأزمة في دعمه وتقويمه واستشفائه من الأمراض، أزمات متلاحقة ومتراكمة في البناء والبقاء، أزمة في الصناعة نفسها وأزمة في القائد ذاته. إنها الاختناقات والأزمات التي تعيشها أمتنا على كافة الصعد والمستويات والأزمان، نحن أمة خارج التاريخ ولأكثر من مائتي سنة مضت! فمتى نصبح لاعبون حقيقيين في رسم معادلة التاريخ؟!.