دقت ساعة العمل الإداري!
قرأت في الأيام القليلة الماضية, وما أكثر ما قرأت قبلها, عدة مقالات لشخصيات وكتاب معتبرين بعضهم مسؤولون حكوميون كبار وبعضهم مفكرون ومثقفون وأساتذة جامعات، والبعض الآخر رجال أعمال مرموقون، وكلهم يتحدثون عن مقدار إعجابهم ودهشتهم غير المحدودة مما رأوه ويرونه في كل مرة يزورون فيها إمارة دبي. وجميعهم يتحسر على استمرار اتساع ثغرة التطور والنمو الاقتصادي بيننا وبين دبي. على الرغم من الفارق الكبير بين البلدين في الثروات الطبيعية والفرص الكامنة التي يمكن استغلالها! وجميعهم يتوقون إلى اليوم الذي تصبح فيه المؤسسات والمنظمات والإجراءات والتنظيمات في بلادنا بمثل تلك التي رأوها في بلد لا يبعد ولا يختلف عنا كثيرا في المقومات الأساسية والظروف الاجتماعية.
إن العقل يدل على أنه عندما يواجه فرد أو جماعة أو مجتمع إشكالا ما, فإن أولى خطوات العلاج تكمن في الاعتراف بوجود المشكلة وعدم الالتفاف حولها، فإن محاولة حجب ضوء الشمس بكف اليد الذي لن يمنع انتشار نور الحقيقة, وإن الرغبة الصادقة في العلاج تقتضى تحديد طبيعة الإشكال ومدى عمقه بشكل صريح وواضح. ثم نستخلص من طبيعة المشكلة وعمقها، الوسائل التي يجب على المجتمع أن يتبناها لبلوغ الأهداف المرجوة.
قبل أيام أعلنت وزارة التخطيط عن ملامح وأهداف خطة التنمية الثامنة. والناظر فيما أعلن، يرى بالفعل أنها أهداف جميلة براقة ومناسبة لاقتصادنا. فقد راوحت تلك الأهداف المعلنة بين العمل على رفع مستوى معيشة المواطنين بتحسين نوعية حياتهم وتوفير فرص العمل لهم ذكورا وإناثا، إلى تنمية الموارد البشرية عن طريق تطوير التعليم والتدريب، مرورا باستمرار العمل على تنويع مصادر الدخل وتوسيع قاعدة الإنتاج الاقتصادي عن طريق تعزيز قدراته التنافسية بالتركيز على الصناعات الاستراتيجية والتحويلية المعتمدة على الطاقة والغاز والتعدين والسياحة وتقنية المعلومات، وانتهاء بالتركيز على هدف زيادة مساهمة القطاع الخاص في التنمية عبر تذليل عوائق الاستثمار والإسراع في تنفيذ استراتيجية التخصيص. وكلها أهداف محمودة ومطلوبة، ولكن ما أسهل تحديد وجمع وتنسيق الأهداف وما أصعب تنفيذها!
بعض هذه الأهداف, إن لم يكن جلها, تكرر في كل خطط التنمية السبع السابقة التي استغرقت نحو أربعة عقود من حياة المجتمع. فما هي نسبة الإنجاز المحققة من هذه الأهداف؟
لا يمكن للمرء أن يتجاهل أو يقلل من الإنجازات الاقتصادية التي تمت فيما خلا من العقود الأربعة الماضية. ولكن النجاح يقاس بنسب الإنجاز، والاقتصاديون في كل أصقاع المعمورة أصبحوا اليوم يهتمون ليس فقط بما أنجز، وإنما أيضا بالفاقد الذي كان يمكن أن ينجز. وبالنظر إلى حجم الموارد وعظم الفرص الكامنة في اقتصادنا, يبدو أن الإنجازات تظل أقل من الطموحات ومما كان يمكن أن توفره هذه الإمكانات, وأبعد من تحقيق تغييرات حقيقية في هيكل الاقتصاد ونمطه. فهل وصلنا إلى حال أصبحت خطط التنمية ذاتها تحتاج إلى خطة لتحقيقها وإنقاذها؟
أين يكمن الداء؟ لم يكن ما نفتقر إليه في يوم ما, خططا تنموية براقة ذات أهداف مشرقة وضّاءة, ولا قلة موارد أو ضيق سعة وفاقة, بقدر ما كان سوء إدارة, وتواضع أداء, وتهالك أنظمة, وقِدم قوانين, وضعف مراقبة.
في كثير من الأحيان يتراءى لي أننا بحاجة إلى خطة تنمية إدارية بجانب خطتنا الاقتصادية. خطة تخفف من المركزية الشديدة في الإدارة, وتقضي على الترهل المعيق الذي استفحل في أرجاء مؤسسات البلاد فعطل الرزق وأعاق العباد. خطة تفتح آفاقا جديدة نحو تحول استراتيجي في طريقة إدارة الموارد وتنفيذ المشاريع وتجديد القوانين. خطة تقوم على تقليص ممارسة الحكومة للأنشطة الاقتصادية التي مافتئت التجارب تبين تميز القطاع الخاص على الحكومي من حيث كفاءة التنفيذ والممارسة. خطة حقيقية نسابق بها الزمن للإسراع في تحويل بعض أنشطة القطاع العام إلى القطاع الخاص, بما لا يؤثر في رفاهية القطاع العريض من الجماهير, خطة تحث الخطى نحو خصخصة المشاريع كافة التي يمكن أن تدار بطريقة تجارية بحتة, وإطلاق العنان للمنافسة الخلاقة, والانعتاق سريعا من خيمة الاقتصاد المتردد إلى رحاب الاقتصاد المفتوح لإيجاد اقتصاد أكثر تنوعا, وأقوى استعدادا لمواجهة مرحلة انضمامنا إلى منظمة التجارة الدولية . وفوق هذا وذاك سرعة في اتخاذ القرارات العاجلة والملحة.
إن الأمن الاقتصادي لمستقبل بلادنا لا يرتبط فقط بقدرتنا على التصرف الصحيح في مواردنا النفطية ونجاح اندماجنا الاقتصادي الإقليمي والعالمي وسرعة متابعتنا لما يجري من تطورات اقتصادية وتنظيمية متلاحقة على الساحة العالمية, بل أيضا بالتصدي للتحديات الآنية التي تواجه اقتصادنا. ومن بينها أساسا تحقيق نمو مستدام لاقتصادنا وتقليص دور الدولة في النشاط الاقتصادي لفائدة دور القطاع الخاص, وخلق بيئة صحية جاذبة للاستثمارات الأجنبية وموطنة قبلها للرساميل المحلية, بكل ما تعنيه كلمتا جاذبة وموطنة من معنى وتدبير. فالاستثمارات الجديدة هي التي تفتح آفاقا جديدة من فرص العمل أمام الأعداد المتزايدة من الناشئة وتساعدنا على التحكم في نسبة البطالة المتصاعدة. ومن ناحية أخرى, فإن حياتنا الاقتصادية بحاجة ماسة إلى تجديد الأنظمة والقوانين التجارية والمالية بما يناسب التطورات المتلاحقة. سألت ذات مرة أحد كبار رجال الأعمال عن العامل الحاسم الذي يجعله يقرر الاستثمار في أي بلد فكان جوابه السريع هو: النظام ووضوح القوانين وفاعلية الجهاز القضائي!
ما الذي نحتاج إليه إذا؟ في مؤتمر عقد في أبو ظبي أخيرا عن "النفط والغاز في الخليج: من أجل ضمان الأمن الاقتصادي" أشار عدد من الخبراء الدوليين إلى حاجة دول المنطقة ومن ضمنها بلادنا إلى إجراء ثلاثة إصلاحات عاجلة في الميدان الاقتصادي:
أولها المرور من القطاع العام إلى القطاع الخاص, وثانيها المرور من اقتصاد مغلق إلى اقتصاد مفتوح, وثالثها التخلص من اقتصاد مرتهن بالنفط إلى اقتصاد أكثر تنوعا. وأضاف بعضهم مثل هيرمان فرانسن رئيس شركة إنترناشيونال إنيرجي أسوسياتس الأمريكية أن "أحد أبرز التحديات يتمثل في إيجاد صناعات جديدة وتطوير قطاع خدمات يكون بإمكانه استيعاب أعداد متزايدة من السكان".
وإذا كانت الآفاق على المدى القصير تبدو واعدة بالنسبة لنا بسبب ما وفرته أسعار النفط العالية من إيرادات مهمة للخزانة العامة على الأقل حتى العام المقبل, فإن الخبراء لا يخفون قلقهم من الآفاق على المديين المتوسط والبعيد. فقد حذر إدوارد مورس مستشار شركة هيس إنيرجي ترادينج من أن " الإصلاحات التي تمت حتى الآن هي عموما جزئية وبطيئة ومنقوصة, وأن النفط منتج غير دائم ومن الحكمة الإعداد لضمان الأمن الاقتصادي في العقود المقبلة".
إن الحياة تسير وفقا لمقتضيات السنن الإلهية في الكون، ومن يتصادم مع هذه السنن هو الخاسر لا محالة. إن الانعزال أو التنحي عن الركب العالمي كما حصل للدولة العثمانية في أواخر أيامها، غدا أمرا مستحيلا . بل إن الدول المتطورة ذاتها تراجع أحوالها بشكل جدي ودوري خوفا من أن ينتهي بها الأمر إلى " المصير الفيكتوري " الذي واجهته بريطانيا قبل قرن من الزمان عندما بدأت تفقد القيادة الصناعية لصالح دول أخرى بسبب عدم إدراك بريطانيا آنذاك أن اقتصادها كان بحاجة مستمرة إلى إحداث تغيرات ضرورية في قطاعاتها الاقتصادية القديمة.
عندما تصبح خطط التنمية خطط ترقية للأهداف دونما إنجاز ظاهر يؤدى إلى تغيير اقتصادي هيكلي باهر, يغدو الأمر بحاجة إلى وقفة وإعادة نظر .. في تصوري أن الداء يكمن في الإدارة أكثر من الاقتصاد !
ذات يوم قال الاقتصادي الأمريكي الشهير لستر ثرو Lester Thurow: "ليس السؤال ماذا يجب علينا أن نفعل, بل السؤال هو كيف نجبر أنفسنا على عمل ما نعلم أننا بحاجة إلى عمله".
إن الاستقرار والأمن والوحدة الوطنية والثروات الطبيعية مزايا ينبغي أن نحسن استغلالها لبناء مستقبل أكثر إشراقا بعون الله تعالى لبلادنا ولأجيالنا المقبلة .