سِتْر .. واقع يشبه الواقع على وجه التقريب (2 ـ 3)

هكذا نقشت رجاء عالم جسد الأنثى على نصها، بلغة تسويفية وترغيبية لرفع منسوب التشويق، على اعتبار أن الشعر ليس كلمة على ورق، كما فلسفت مريم أصله المادي لتعلن أن بوسعها "تتبع الشعر في تحوله لمادة بأرض الواقع" فالشمس من منظور الساردة يستحيل "لطخة زعفران" وهكذا تتراسل الحواس بما يشبه استبدال الأدوار، داخل حركة خفية ملذوذة، كما تعبر عن ذلك، حتى حين يتعلق الأمر باحتساء مشروب "رشفت مريم من عصير الليمون بالنعناع، تركت للخضرة أن تغسل جوفها، سمحت للسّر داخلها أن يتمدد ويحتل كامل أطرافها، بدأ خدر يسري بأطرافها".
هذا التضاد الدرامي، أو ما يمكن اعتباره تناقضا داخليا في الرواية، هو الذي أسس لكتابة أو حكاية ذاتية مرويّة بمزاج وخبرات شخصية، مقابل رؤية موضوعية محكومة بجملة من المغازي الاجتماعية والثقافية والأخلاقية، بحيث صارت "سِتْر" محلا لتفكيك الواقع وقوله في آن، بعد ترطيبه بشيء من الخيال أو إزاحته الضمنية إلى اللاواقعية، وهذه هي طبيعة النص الذي يتحدر من رؤية ثقافية، ولكنه لا يحدث قطيعة معها، وإن ظهرت بعض آثار الاشتغال الذهني، فتصعيد النموذج النسائي محسوب بحذر، والتصوير الحسي للمرأة لا يعني التعاطي معها ـ أدبيا ـ كقيمة جنسية فقط.
ويبدو أن الشفرة التأويلية المختزنة في "سِتْر" تكمن في المماهاة الشكلية والحسية بين البشري والطبيعي، كما يتحدان في النصي، أي في أجساد مجنسة منحازة لأنوثتها "تعشق الأنثى الأولى فيها.. انثى تتخفف من أي ساكن غير شبح أنثاها" ولكنها مبذورة بماء ذكوري "يمكن أن يخصب امرأة أو حجرا أو نخلة" فهي على الدوام تستمد ايقاعها من الماء، حين تتمتم "القطيطة" مريم بتلذذ "يا لي من قطة تغتسل" فيما يبدو إشارة شهوية من ضمن جملة إشارات إلى "جسد منحوت يشق الماء... استقام في ممرات الخضرة" فقد استوى بشيء من التماهي البكري مع الطبيعة، ولم يصنع كجسد فهد المصعّد عضليا الذي تحول إلى تمثال ليغري "امرأة لا تقنع إلا بملموس وصلب".
ثمة مطلق جسدي أرادت رجاء أن تختبر بموجبه العالم الرجولي، ولكن دون الذهاب بالرواية إلى بؤرة المساءلة الاجتماعية، فهذا الجسد العظيم الذي يشبه صهارة جوف الأرض، والذي لا تكف الساردة عن المباهاة بفتنته، وصفه محسن بنظرة/ شفرة موحية "أنت غلطة، بجسدك الصغير بين طفلة وأنثى" وهو ما يعني تصعيد الثقل الحسي لذلك الجسد، وتأوينه على حافة نظام لغوي، بقدر ما يحترم صرامة فعل "التسمية" ينحرف بالمفردات إلى شيء من التورية، ليستعرض النص بما يشبه الجسد الذي يمارس شيئا من التعري المحسوب، أو اقتياد القارئ إلى مواطن تلميحية لا تصريحية، كالإشارة الخاطفة لجسد طفول الممشوق الذي تتأطر حوافه بسواد البكيني، أو ما يسميه فهد بحسرة "الأوركيد الأفريقي" بحيث تتم الموازاة بين لذة جسد لا يعلن تعريه الكامل إلا في نهاية الرواية، ولذة الترقب السردي حين يفصح النص عن كوامنه.
هكذا تقدم رجاء شخصياتها النسوية، فالمرأة دائما فاكهة، أو هي المعادل للمكون الأرضي والطبيعي، بل إن هنالك قصدية مبطنة لمماهاة الثمار بالجسد أو الأعضاء الأنثوية تحديدا، والتأكيد على تشابهها الأيقوني، وما يترتب على ذلك التصفيح من تداعيات حسية، لدرجة تبدو خطاب رجاء الروائي في بعض مفاصله وكأنه ترجمة روائية لأفروديتات ايزابيل اللندي. شهرزاد مثلا التي انتصبت "بدلال، بخبث، بنداء" أمام عدسات محسن المختلفة بدت مثل خوخة ناضجة، في إشارة إلى تواشج بنائي أصيل يتأكد حسيا من خلال انعقاد لحمة الأرض بثمرة الفقع، وانعقاد الخوخة ـ أيضا ـ تلبية لطينة مريم، أو ما تسميه "التماهي الخلاب بين ماء الثمرة والأنثى" كما يتمثل كذلك في الأصل الأرضي للكائن، أي في هوس طفول بقضم طين بيوت حائل حين ينديها المطر، فللطين رائحة مسكرة، حسب تعبيرها، ومذاقه خارج هذا العالم.
من ذلك المكمن الحسي يجيء ضعفها تجاه الرجل، فكل شيء يجس بشفة منذورة لاستمذاق اللذات، أي الشفة التي تقضم الثمرة وتكتب برحيقها، كما بدا ذلك في التأليب الحسي إزاء حبة الخوخ التي أحالتها رجاء إلى جسد، عندما انغرست أسنان مريم في قضمتها الأولى بلحمها الطري، ولاكت جسدها، لتتلذذ بطراوة لا تطاق، حسب تعبيرها، وفي القضمة الثانية "غاصت في فرجة بكامل شفتيها، وأسنانها للبطانة الحية وتتفتق ماء إلهيا".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي