الإسكان ومتطلبات المستقبل
أحد أهم محاور علاقة الإنسان بالأرض هو قدرته على توفير المسكن الملائم له ولأسرته، ولهذا يعيش الإنسان منا حياة وهو يعمل من أجل الحصول على المسكن وملاءمته لمتطلبات حياته، وتقوم الكثير من المؤسسات الإسكانية والتمويلية والتنفيذية على تقديم مختلف الحلول لمتطلبات الإسكان.
وقبل الدخول في موضوع الإسكان وأنواعه ومتطلبات السكان لا بد أن أشير إلى أننا كمعنيين بالتنمية ومهتمين بها يضاف إلينا العديد من المعنيين بقطاعات أخرى وأيضا من غير المعنيين نتساءل عن سبب إلغاء وزارة الإسكان في الوقت الذي تتجه فيه المملكة بشكل قوي نحو الاهتمام بقطاع الإسكان وإعادة تنظيمه وتزامن ذلك مع دعوة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى إنشاء مؤسسة باسمه لوالديه للإسكان التنموي، إن سبب السؤال أو الحيرة هو تعارض ذلك مع جميع التوجهات المطلوبة لمستقبل الإسكان ثم ما حدث بعد ذلك من نقل مسؤوليات وزارة الإسكان إلى قطاعات لا يرتبط الإسكان بها بشكل مباشر، ولعل ما يؤكد ذلك هو إنشاء وكالة مساعدة للإسكان الشعبي في الوقت الذي أثبتت التجارب الدولية والمحلية فشل فكرة مثل هذه المشاريع وما يصاحبها من مشاكل اجتماعية وأخلاقية وأمنية وغيرها كثير، بل إننا في المملكة وبعد تجربة منح الأراضي لذوي الدخل المحدود ثم إلغائها وإعادة رسم الرؤية بشكل مختلف.
إن تعدد الشركاء وبعثرة المسؤولية بين العديد من القطاعات الحكومية المختلفة سوف يزيد الفجوة الإسكانية وربما ينتج لنا مشاريع لا ترقى إلى المستوى العمراني الذي نأمله للمرحلة المقبلة، يضاف إلى ذلك التدافع الخيري للعديد من المواطنين للقيام بإنشاء مشاريع إسكان خيرية في ظل دعوة خادم الحرمين الشريفين لذلك، هذه المشاريع وغيرها إذا لم تجد الجهة الإدارية والفنية المنظمة لها والتي تربطها بالحاجة الفعلية للسكان وجعل ذلك ضمن منظومة تنموية متكاملة تعالج مشاكل العمل والدخل والإسكان وتحد من تلاعب الممنوحين لهذه المساكن وجعلها توجها جديدا للاستثراء.
كما أن قيام بعض المطورين بإنشاء مشاريع إسكان تجارية لا تراعي أبسط متطلبات السلامة من حيث الإنشاء والمواصفات الفنية أو مواد البناء واللجوء إلى أشكال معمارية غريبة وألوان جذابة على حساب العمر الافتراضي للمسكن سوف يؤدي ذلك إلى الكثير من المشاكل العمرانية والاقتصادية والنفسية للمشترين لهذه المساكن، ومع استمرار البناء الفردي، من جهة أخرى، للمساكن وما يسببه من إعاقة للتنمية وتأخير لتوفير المرافق والخدمات وجعل مختلف الأحياء السكنية ورشة عمل لعمر طويل.
إن المطلوب للمرحلة المقبلة وحتى نضمن جودة التنمية وحسن توجيهها والإقلال من الانتقال الدائم من المساكن أن ترتبط مختلف عناصر المسكن مع بعضها البعض، حيث تمثل العناصر الأساسية لتوفير المسكن الملائم في الأرض والتمويل والمرافق والخدمات والإنشاء.
إن مشكلتنا ليست في الإسكان الشعبي أو الخيري فقط وإنما المشكلة في التنمية الإسكانية وسياساتها وتمويلها وأدوات تنفيذها وضمان استمرارها ووصولها إلى مختلف فئات المجتمع في مدنهم وقراهم وجعلها أحد الموجهات لتحقيق الاستقرار السكاني وربطها بالمشاريع التنموية وبالسياسات الوطنية المعتمدة من خلال:
أولا: إيجاد هيئة أو مؤسسة تعنى بشؤون الإسكان بمختلف فئاته وإحجامه ومستخدميه بحيث تتولى هذه الهيئة أو الإدارة وضع الأنظمة المنظمة له والممولة له والمنفذة.
ثانيا: إعادة النظر في مفهوم الإسكان الشعبي والأخذ بمفهوم الإسكان التنموي لأن العديد من دول العالم أثبتت تجاربها فشل الإسكان الشعبي نظراً لما يصاحبه من مشاكل اجتماعية وأمنية وربط العلاقة التنموية بينهما من خلال مفهوم التوطين وليس الإسكان فقط.
ثالثا: ربط منح الأراضي بمشاريع الإسكان بحيث تقوم الحكومة من خلال مؤسسات خاصة بإنشاء المساكن وفق نظام الأحياء المتكاملة.
رابعا: وضع نظام التصرف بالمساكن وفقاً لفئات المجتمع الفقيرة ومتوسطة الدخل وعالية الدخل بحيث تمنح الفئات الفقيرة المسكن وفق ضوابط لذلك والمتوسطة الدخل يطبق عليها نظام مشابه لنظام صندوق التنمية العقارية والفئة الغنية تشتري المساكن وفقاً لسعر السوق بحيث نوجد أحياء متكاملة ومترابطة بدلاً من تحول مدننا إلى أحياء للأغنياء وأحياء للفقراء.
خامسا: تطوير أنظمة وتشريعات تحصيل أقساط قروض الإسكان لأن أغلب المقترضين لا يلتزمون بالسداد ولا يملك المقرض أي وسيلة لاستعادة المنشأة بسبب الإجراءات القضائية والإدارية وهذا أدى إلى عزوف العديد من مؤسسات التمويل عن تقديم القروض.
سادسا: دعم وجود مؤسسات الإقراض المالية ووضع الضوابط المنظمة لأسلوب الإقراض والسداد.
سابعا: التأكيد على أهمية قيام شركات ومؤسسات التنمية العقارية المؤهلة والمصنفة على إنشاء الأحياء السكنية والقضاء على ظاهرة البناء الفردي للمساكن.
ثامنا: إيقاف جميع أشكال وأنواع منح الأراضي واعتماد منهجية الانتفاع بالأرض وعدم جعلها عنصر استثمار وربطها بمشاريع التنمية المختلفة بما فيها الإسكان بحيث يكون الهدف هو توفير المسكن الملائم والمتوافر فيه مختلف الخدمات والمرافق العامة.
تاسعاً: قيام الهيئة المقترحة باستقبال الأموال المتبرع بها من المحسنين وغيرهم ووضعها في صندوق تمويل الإسكان الخير وتوجيهها إلى الفئات المحتاجة وفقاً لما لديها من قوائم.
عاشراً: دعم دور مجالس المناطق في القيام بدورها المتعلق بمعرفة الاحتياجات المحلية لكل منطقة ووضع الأولويات لها والعمل المباشر مع الهيئة المعنية بالإسكان على توطين هذه المشاريع مع أدوات التنمية الأخرى وفق المخططات والدراسات الإقليمية المعتمدة لكل منطقة.
وأخيراً مهما كانت المبررات فإن أهمية وجود جهاز يهتم بموضوع الإسكان من حيث التمويل والتنفيذ وسداد التمويل وربط مختلف الأنشطة السكانية من تنموية وخيرية واجتماعية أمر في غاية الأهمية، كما أن في المقابل ما نراه اليوم من مستوى هزيل في أسلوب تنفيذ الوحدات السكانية وقصر عمرها الافتراضي للعديد من الأسباب المعروفة لنا جميعا وارتفاع تكاليفها في الوقت نفسه، كما أن الحاجة إلى إيجاد وسائل تمويل مختلفة وتطوير التشريعات والأنظمة التي تضمن سداد المقترضين ليؤكد أهمية وجود جهاز يعنى بكل ذلك بدلاً من إلغائه وتحويله إلى جهاز بسيط في مؤسسة أو وزارة من آخر اهتماماتها هو موضوع الإسكان.
إن مشاريع الإسكان ووضع الرؤية التنموية والتمويلية والتنظيمات المرتبطة بها تتطلب قوى بشرية مدربة في التمويل والمحاسبة والهندسة والتنفيذ وعقولا قادرة على التطوير ورسم المستقبل ومعرفة متطلبات مختلف فئات المجتمع وفقا لظروفهم الاقتصادية والمكانية والطبيعية والمناخية وغيرها، مما لا يخفى على الإنسان البسيط ولن تستطيع أي مؤسسة خيرية أو تنموية مهما بلغت إمكاناتها أن تقوم بالمشروع المتكامل للإسكان وإنما سوف تكون جهودا مبعثرة تنتهي مثل ما انتهى العديد من مشاريع الإسكان الخيرية التي قامت بها دول مرت بحالات مشابهة لما نحن فيه اليوم ثم اكتشفت أن مثل هذه المشاريع أصبحت عبئاً على التنمية ومركزا لكل فساد بسبب نوعية السكان وقدراتهم المالية وكثافتهم السكانية، ولهذا لجأت مثل تلك الدول إلى المؤسسات الإسكانية ذات الرؤية الأوسع لمتطلبات المجتمع بمختلف فئاته ودخوله.
وقفـــة تأمـــــــــل:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقـــــل
خلوتُ ولكن قل عليّ رقيـــبُ
ولا تحسبنّ الله يغفل ساعـــــــــــــــة
ولا أن ما يخفى عليه يغيــــــبُ