الاقتصادات العربية تنوء تحت ثقل التواقيع والمستندات .. لماذا؟

اطلعت أخيرا على تقرير للبنك الدولي حول "عقد الصفقات لعام 2006" الذي يتناول بيئة الأعمال العربية من بين 155 دولة تم ترتيبها وفق مؤشرات سهولة أداء الأعمال. ويمكن اعتبار ما خلص إليه التقرير بمثابة جرس إنذار يستدعي منا في المملكة بوجه خاص، وفي الدول العربية على وجه العموم، الانتباه ووضع علامات استفهام حول الآلية والبيروقراطية التي تحول دون توسيع قاعدة التجارة والأعمال في بلادنا وبالتالي تحد من توفير فرص وظيفية عديدة كان بالإمكان توفيرها, فنحن في المملكة معنيون بالدرجة الأولى بإيجاد الوظائف الجديدة باعتبارها التحدي الأكبر أمام اقتصادنا الوطني خلال المرحلة المقبلة، لأنه على الرغم من المؤشرات الإيجابية لأداء اقتصادنا الوطني، التي لا تخفى على المراقب، سواء بسبب الفائض الضخم المتوقع للموازنة الحكومية أو من حيث ارتفاع معدلات النمو .. فإن الاختبار الحقيقي يكمن في قدرة الاقتصاد على إيجاد فرص العمل المناسبة لكل مواطن.
يقول التقرير الذي نشرته مجلة "الاقتصاد والأعمال" في عددها الأخير: "بالنظر إلى الأوضاع العامة في منطقة غير مستقرة نسبيا فإن الكثير من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا التي هي في أمس الحاجة إلى المشاريع والوظائف الجديدة تعرض نفسها إلى توسيع الهوة بينها وبين الدول الأخرى التي تقوم بتبسيط قوانينها وتجعل مناخ الاستثمار فيها أكثر ملاءمة لإقامة المشاريع"، ويشير التقرير إلى جملة من المعوقات الإدارية والتنظيمية التي تكبل نمو القطاع الخاص وممارسة الأعمال في المنطقة العربية وتجعله ينوء تحت ثقل المستندات والتواقيع.
التقرير يتضمن حقائق وأرقاما ومؤشرات لافتة للنظر حول بعض أنماط البيروقراطية في عالمنا العربي .. فمثلاًً يتطلب وصول بضاعة مستوردة من الميناء إلى بوابة المصنع في سورية 63 يوماً و18 مستندا ًو47 توقيعاً، مقابل خمسة أيام وثلاثة مستندات وتوقيع واحد فقط في الدنمارك! وفي المقابل يتطلب تصدير المنتجات في العراق 70 توقيعاً و15 توقيعاً كمعدل وسطي في الدول العربية مقابل توقيعين في ستونيا! وكأني بالفجوة التنموية بين أقطارنا وتلك الدول تتسع بحجم هذه الفجوة البيروقراطية!
تقرير البنك الدولي أسهب في عرض المعوقات الإدارية والتنظيمية التي تكبل نمو القطاع الخاص وممارسة الأعمال في المنطقة العربية، مما جعله ينوء تحت ثقل المستندات والتواقيع. ومع ذلك فإن التقرير ببعض إشاراته الإيجابية لبعض الدول العربية، خفف قليلاً من الإحباط الذي يمكن أن يدب في النفوس، حيث سجل تحقيق تقدم كبير في بعض الحالات مثل سهولة إبرام العقود التجارية في تونس التي لا تستغرق سوى شهر واحد أو الالتزام بالقوانين الضريبية في الإمارات الذي لا يتطلب أكثر من 12 ساعة في السنة.
أما مصر فقد احتلت المرتبة السادسة في قائمة الدول التي أجرت أكبر عدد من الإصلاحات في العام الماضي على الرغم من تصنيفها في المركز 141 في الترتيب.

أعباء إدارية وبيروقراطية

إن ما يثير القلق هو ما يخلص إليه التقرير بأن تعطيل الصادرات بسبب مشكلات تتعلق بالبنية الأساسية تمثل أقل من ربع الحالات التي تتسبب فيها الأعباء الإدارية والبيروقراطية.
يقول التقرير: "وعلى عكس المعتقدات الشائعة تتسبب الإجراءات الإدارية الجمركية وغيرها من الإجراءات الروتينية في حدوث أكثر حالات التأخير التي تعانيها شركات التصدير والاستيراد في حين يحدث أقل من ربع حالات التأخير بسبب مشكلات تتعلق بالبنية الأساسية الفعلية مثل سوء حالة الموانئ أو الطرق". وبالنسبة إلى أصحاب المصانع في الدول النامية يمكن أن تمثل الأعباء الإدارية لممارسة التجارة تكاليف أكبر من التعرفات الجمركية والقيود المفروضة على دخول الصادرات والواردات .. فمثلا يتطلب تصدير البضائع في إيران 11 مستندا وفي سورية 12 مستندا, وعموما يجب الحصول على 15 توقيعا كمعدل وسطي لتصدير البضائع من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وذلك مقارنة بالمصدرين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الذين يحتاجون إلى خمسة توقيعات في المتوسط.
وإذا ما تم الربط بين سهولة ممارسة الأعمال وتوفير فرص العمل والإصلاح، فسيتضح السبب في المراتب المتأخرة التي تحتلها دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من حيث معدلات البطالة بين الشباب.
وبالنظر إلى ما ورد في التقرير تتضح الحاجة الملحة للإصلاح ولا سيما في الدول الفقيرة التي تفرض أعلى الضرائب على المشاريع في العالم. مما يؤدي إلى تهرب المستثمرين من دفع الضرائب والتوجه للعمل بشكل غير رسمي, الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم المشكلات ويحول دون زيادة الإيرادات.
لقد أورد التقرير مفارقات شتى في بعض الدول العربية ودول الشرق الأوسط، حيث يوضح مثلاً أن بدء أي مشروع جديد في اليمن، يتطلب أن يكون رأسماله 15 ألف دولار أي ما يعادل 27 ضعف الدخل السنوي للفرد, أما في إيران فيستغرق الأمر 668 يوما للوفاء بكل المتطلبات الإدارية اللازمة لبناء مستودع تخزين, وفي عمان يستغرق إغلاق شركة تمر بحالة إفلاس سبع سنوات!
وعلى صعيد المملكة العربية السعودية، يتطرق التقرير إلى بعض الإنجازات, مشيراً إلى أن السعودية نفذت العديد من الإصلاحات أبرزها تأسيس مكتب خاص للمعلومات عن القروض وتسهيل بدء مشاريع جديدة.
وفي المحصلة وبناء على ما ورد في التقرير وغيره من الدراسات والتقارير عن الأداء الإداري والاقتصادي لدول المنطقة فإن الأمر يتطلب وضع علامات استفهام على كثير من مسلماتنا الإدارية في الوطن العربي بشكل عام، وإعطاء الأولوية في برامج الإصلاح الاقتصادي لإعادة هيكلة البيروقراطية العامة حتى نتمكن من استثمار قدراتنا الاقتصادية المواتية الاستثمار الأمثل, وحتى نتمكن أيضا من تعزيز العائد المنفعي من دخولنا المنظومة العالمية.
والدعوة أيضا موجهة لتعزيز المؤشرات الإيجابية لاقتصادنا الوطني من خلال الحد من بعض العوائق البيروقراطية، حيث تشير أحدث التوقعات الاقتصادية إلى تجاوز إيراداتنا المالية 600 مليار ريال وفائض الموازنة 200 مليار ريال خلال السنة المالية الجارية. ومن ثم فإن كسر حدة البيروقراطية وتعزيز دور أداء التنمية سيمكناننا من جني ثمار هذا الأداء الاقتصادي المتميز ليس على المدى القصير فحسب ولكن على المدى الطويل. إن المتأمل للتقرير سيتعرف أكثر إلى ما يمكن أن تلعبه البيروقراطية كعقبة كؤود أمام تحقيق الأهداف والاستراتيجيات الوطنية والإقليمية .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي