ثغرة «الأقرباء» في نظام السوق
مضى عامان وشهران على صدور نظام السوق المالية في المملكة، الذي باتت الحاجة إليه ملحة لحماية المتعاملين في الأوراق المالية كأسهم الشركات وصناديق الاستثمار. ومن قبيل الصدف في التوقيت أن صاحب صدور هذا النظام عدة عوامل إيجابية برزت على الساحة الاقتصادية، على رأسها ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية ما أدى إلى انتعاش غير مسبوق في حجم التعاملات في سوق الأسهم المحلية حيث زادت القيمة اليومية لهذه التعاملات من ثلاثة مليارات ريال إلى نحو 15 مليار ريال في المتوسط، وذلك خلال عامين فقط.
ومع هذه الزيادة الكبيرة في حركة السوق كان من الطبيعي أن تزداد الاختراقات والممارسات غير السليمة في عمليات البيع والشراء وجمع الأموال، وهي ممارسات قائمة منذ سنوات لم تجد أمامها آلية رادعة بضبطها وتجريمها في غياب نصوص نظامية تقنن مبادئ السوق وسلوكياتها المشروعة. أما وقد صدر نظام السوق المالية فقد أصبحت مسارات الطريق واضحة وإشاراته من صفراء وحمراء وخضراء نجدها في كل تقاطع ومفترق. وساعد ذلك هيئة السوق المالية على القيام بمهامها، إذ أصدرت قراراً في 7/5/1426هـ بإيقاع غرامات مالية على 44 من أعضاء مجالس إدارات وتنفيذيين كبار لمخالفتهم المادة الـ 33 من قواعد التسجيل والإدراج، كما أصدرت الهيئة قراراً آخر في مطلع هذا الأسبوع بوقف التعامل مع اثنين من المستثمرين لمدة 30 يوماً لمخالفتهما أحكام الفقرة (أ) من المادة الخامسة من نظام السوق.
وكنت قد أشرت في مقال سابق بتاريخ 8/8/1424هـ إلى أن مشروع النظام عند دراسته في مجلس الشورى تم إخضاع مواده لمراجعة متأنية كي تكون المحصلة النهائية رقابة محكمة وتنظيماً جيداً يوفر معايير من الشفافية لا تقل عما هو معمول به في الأسواق المالية الأخرى، ولا سيما فيما يخص الإفصاح الكامل عن تعامل الأشخاص المطلعين وكبار المساهمين مع الالتزام بمتطلبات الفحص والقياس التي تخضع لها تلك الأسواق، وفي سبيل ذلك كان لزاماً الدقة في ضبط المصطلحات والتعريفات التي وردت في النظام لما لذلك من تبعات نظامية واستحقاقات قانونية.
كان تعريف ''الأقرباء'' في مشروع النظام الذي أعدته مؤسسة النقد العربي السعودي من النقاط التي استأثرت بوقت طويل من النقاش في لجنة الشؤون المالية في المجلس، إذ لم يتقبل البعض ذلك التعريف الذي نص على أن الأقرباء هم الزوج والزوجة والأولاد، ورأى ذلك البعض ضرورة إضافة كلمة ''القُصّر'' إلى الأولاد بحيث يصبح تعريف الأقرباء هم ''الزوج والزوجة والأولاد القُصّر''.. وكانت الحجة التي سيقت لتبرير تلك الإضافة أنه لا يمكن من الناحية العملية السيطرة على تصرفات الأولاد الراشدين من بيع وشراء للأسهم أو الأوراق المالية الأخرى.
ودار جدل طويل حول هذه الجزئية الدقيقة، وإن كانت في ظاهرها تبدو غير ذات قيمة، لما لها من تبعات قانونية مهمة في منظومة السوق المالية ولا سيما في مجتمعنا الذي يتميز بروابط عائلية متينة قد تطغى في بعض الأحيان على متطلبات ومعايير السلوك المهني. وكان الفيصل في هذا الجدل هو السياق الذي اُستخدمت فيه كلمة ''أقرباء'' في صلب النظام حيث نصت المادة الثامنة على التالي:
(يجب على كل من يصبح موظفاً لدى الهيئة ''هيئة السوق المالية'' أو وكيلاً عنها، أو عضواً في مجلسها، أن يفصح للهيئة فور تسلمه مهامه عن الكيفية المحددة في لوائح الهيئة، عن الأوراق المالية التي يملكها أو الواقعة تحت تصرفه، أو تحت تصرف أحد أقربائه، وعن أي تغيير يطرأ بعد ذلك عليها خلال ثلاثة أيام من تاريخ علمه بالتغيير).
بمعنى آخر أن النظام لا يضع قيداً على أقرباء موظفي هيئة السوق من أزواج وأولاد فيما يختص بقراراتهم من بيع وشراء للأسهم أو الأوراق المالية الأخرى وإنما يتطلب فقط إفصاحاً عن هذه القرارات في وقتها حماية لموظفي الهيئة من جانب والمتعاملين في السوق، من جانب آخر بما في ذلك الأقرباء أنفسهم، ومن ثم فإن إضافة كلمة القٌصّر لاستبعاد الأولاد الراشدين من حكم هذه المادة لا مبرر له وليس له سند ولا يستقيم مع مقاصد النظام، إذ كيف للقاصر، إن كان هو المقصود في النظام ، الإفصاح عما تحت تصرفه وهو أصلاً لا تصرف له، ثم إذا كان استبعاد الأولاد الراشدين من دائرة الأقرباء في أحكام هذا النظام بحجة أن لهم ذمة مالية مستقلة فما بالك بالاستقلالية المالية التي يتمتع بها كل من الأقرباء الآخرين وهما الزوج والزوجة في الإسلام؟
وذكرت في مقالي السابق الذي أشرت إليه آنفاً إلى أن مجلس الشورى أقر التعريف الذي ورد من مؤسسة النقد العربي السعودي للأقرباء بأنهم ''الزوج والزوجة والأولاد'' وهو تعريف ينسجم مع ما هو معمول به في الأسواق العالمية، وأدرج المجلس هذا التعريف في المادة الأولى من النظام الذي تم رفعه للمقام السامي، غير أن النظام الذي نشر في جريدة ''أم القرى'' أضيفت إليه في تعريف الأقرباء كلمة ''القٌصّر''، ما أحدث في تقديري، خلخلة في واحد من أهم أركان النظام وفتح ثغرة كبيرة في السوق المالية للاختراقات والممارسات غير العادلة ستقف أمامها سلطات السوق عاجزة عن ضبطها وتجريمها، وكنت قد طلبت في ذلك المقال سد هذه الثغرة وحذف كلمة ''القٌصّر'' من تعريف ''الأقرباء'' الواردة في المادة الأولى من النظام حماية للصالح العام.
واليوم بعد مرور أكثر من عامين على صدور نظام السوق المالية وما يراه البعض من ممارسات غير عادلة، وفي ظل ما نشاهده من تطورات في الأسواق المالية المجاورة والانفتاح المرتقب لسوقنا بعد الانضمام الوشيك لمنظمة التجارة العالمية، فإنني أكرر طلبي، ولكن هذه المرة لهيئة السوق المالية، بالمبادرة إلى سد هذه الثغرة في النظام كسباً لثقة المستثمرين من الداخل والخارج الذين ينشدون معايير موحدة في الأسواق التي يتعاملون معها.