إعادة نظر .. الصناعة والزراعة والتخصيص

إعادة نظر .. الصناعة والزراعة والتخصيص

استراتيجيات بعيدة المدى، خطط وسياسات مرسومة لأعوام وسنوات مقبلة، ولكن ليس فقط لتفعيل قرارات مطروحة. قد تكون إحدى حسنات الأزمة المالية العالمية التي ألقت بظلالها على الاقتصادات العربية والدولية التأكيد على العمل الجاد الدؤوب من أجل تعظيم المكاسب المتحققة من مشاريعنا الاستثمارية المستقبلية, وذلك من خلال التركيز على نوعياتها وليس كمياتها، مُستمدين عزيمتنا من الخبرات الإدارية والمالية الوطنية الكفؤة. منتجاتنا الوطنية وعلى رأسها النفط والبتروكيماويات لا جدال في تأثرها سلباً نتيجةً انخفاض الطلب العالمي عليها بسبب الركود الاقتصادي, الذي بدأ بالفعل. ولعل هذا دافع لنا كي نتجاوز هذه الأزمة, كما تجاوزنا غيرها من الصعاب, لأن الأزمات تخلق أمما قادرة على البناء والعطاء. من السمات التي حباها الله للبشر الرغبة في الإبداع والتطوير بهدف تحقيق الممكن ضمن الموارد والإمكانات المتاحة, وذلك بوضع القرارات التي تُناسب الاحتياجات والقابلة للتطبيق. فطبقاً للمعطيات الواقعية، نحن بلد يفتقر إلى الموارد الطبيعية اللازمة لإنتاج كثير من السلع. النفط يمثل العمود الفقري والصناعات البتروكيماوية تعد الصناعة الرائدة لأن الروابط الأمامية والخلفية للقطاع النفطي ضعيفة. واقع الحال يفرض على القطاع الصناعي التركيز على الصناعات البتروكيماوية بأنواعها لميزتها النسبية ولوفرة المادة الخام اللازمة لها. عندما نتعامل مع الأحداث العالمية الساخنة المؤثرة فينا، وعندما يكون الخيار الاقتصادي هو التصنيع للحاق بركب البلدان المتقدمة، فلا بد من النظر إلى العوائق التي تقف في وجهه, وكذلك الإمكانات والطرق المثُلى لتوظيفها من أجل تحقيقه. يُجمع خبراء التنمية الاقتصادية على أن هناك طريقين لتحقيق ذلك، خيار التنمية الزراعية والآخر التنمية الصناعية. الأول منهما نستبعده لنقص الموارد المتاحة من ندرة في الأمطار وشح في المياه وقلة في الأراضي الزراعية الصالحة للزراعة. أما خيار الصناعة فيشمل سياسة إحلال الواردات التي أخذت بها غالبية البلدان المتقدمة مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، أما السياسة الأخرى فهي إحلال الصادرات, وهذه تُعنى بإحلال الصادرات الحديثة مثل السلع المصنعة من المواد الأولية، أي تصنيع المواد الأولية قبل تصديرها. التصنيع خيار استراتيجي رئيس لتحقيق نمو عال في الدخل ورفع مستوى معيشة المواطنين. ومن مبررات هذا الخيار: البلدان المتقدمة هي صناعية، الاستخدام الأمثل للإمكانات المتاحة وتحقيق العمالة، إنتاج المواد الأولية كالنفط مثلاً لا يحقق استقراراً في الإيرادات الحكومية حيث إن التصنيع يحقق نوعا من التعادل، تحقيق وفورات الإنتاج الكبير وهذه ميزة للصناعة، الاكتفاء الذاتي وتصدير الفائض عن الحاجة، وكذلك التأثير الاجتماعي والاقتصادي اللازم للتنمية. لا شك أن الاستراتيجية المتكاملة للتصنيع تعتمد على قدرة المجتمع على التفاعل مع هذه البرامج والخطط. فعنصر العمل هو المحور الأساسي للتنمية فهي منه وله وهو العمود الفقري للصناعة، فزيادة هذا العنصر عن طريق التعليم والتدريب يشكل حجر الزاوية في رفع كفاءة ومهارات هذا العنصر. سياسات التصنيع المرسومة والسليمة عليها أن تأخذ في الحسبان مدى إمكانية تنمية وتطوير هذا العنصر المهم. ففي مجتمع يغلب عليه طابع الاعتماد على العنصر الأجنبي بسبب النظرة الدونية والتحقيرية للمهنة وصاحبها يتطلب منا كجزء من هذه السياسة مناقشة تداعياتها. الاستراتيجية بعيدة المدى تحتوي على عنصر أساس وهو رفع الوعي الثقافي للعمل، أي نشر المعرفة المهنية التوعوية حتى نستطيع زيادة الموجود من هذا العنصر وإحلاله مكان العنصر الأجنبي. تنمية تقوم على أكتاف الغير هي عرجاء وناقصة. من ناحية أخرى، يجب أن تشمل هذه الاستراتيجية عون ودعم الجهات التعليمية بحيث تكون في المقدمة، لأننا لا نستطيع أن نقوم بهذا الجهد الجبار في تنمية وتطوير الوعي الصناعي، الحرفي، والمهني طالما أن التعليم في معزل عن الهم الاجتماعي. تشمل مشاركة الجهات التعليمية برامج تأهيلية للطلبة ضمن المناهج الدراسية بحيث يتعلم الطالب الحدادة والنجارة والخراطة وغيرها من المهن الأخرى حتى نتمكن من غرس مبدأ العمل وحبه في الناشئة. النتيجة ستكون خلق إنسان بإمكانه المساهمة في خدمة وطنه وبإمكانه التعامل التام مع مجهودات الدولة التصنيعية. رسم ووضع الاستراتيجية يتطلب عملا مشتركا من جميع الأجهزة المعنية، لكن الدور المُنوط بالمجلس الاقتصادي الأعلى يختلف تماما عن دور الأجهزة التنفيذية. في تصوري البسيط وضع القطاع الصناعي لدينا يثير الشفقة والحزن. الشفقة من باب المحاولة في كسب الأيدي الوطنية ولكن هناك من ينافسها بأجور زهيدة، وعلى الرغم من أن من يرغب في العمل الصناعي يتطلب منه التضحية بالموروث الاجتماعي التقليدي إلا أن المقابل المادي ضعيف من قبل القطاع الخاص. لا شك أن هذا القطاع نشأ أساسا لتحقيق الربح, وهذا حقه المشروع, لكن كما أسلفنا, فهو يُغازل الأيدي الوطنية وعينه على العمالة الوافدة الرخيصة. أما إثارة الحزن فهو كونه قطاعا لم يبرح مكانه في الاستغناء عن الدعم الحكومي، أي أنه إلى الآن يحبو وإن تم فطامه فسيندرس تدريجياً. أمام هذه المعضلة ما دور المجلس الاقتصادي الأعلى؟ هل هناك استراتيجيات ودراسات استشرافية في هذا الإطار؟ وما النتائج التي أسفرت عنها؟ في اعتقادي أنه آن الأوان لوضع حد أدنى للأجور في المملكة لمراعاة الظروف الاقتصادية والاجتماعية لهذه الشريحة حتى تقوم بدورها المأمول. أيضاً، القطاع التعليمي يحتاج إلى رؤية شاملة بحيث يتم اعتماد استراتيجية تقوم على الإبداع والابتكار وليس الترديد، وهذه الطموحات لا بد أن تواكبها مبان وتجهيزات بحيث تكون بيئة إبداعية تقوم على الترغيب وليس الترهيب وتندرج تحت الاستراتيجية التصنيعية المقبلة. ما أسلفنا ينسحب على أسواق رأس المال بحيث تتم تهيئة البيئة الملائمه لنمو وجذب رأس المال المحلي خاصة. هذه السوق تشمل أسواق الرهونات والمشتقات وكذلك بيئة مهيأة لتحديد العوائد على الاستثمارات ومصدر تمويل رئيس للقطاعين الخاص والحكومي. أما فيما يتعلق بجانب التخصيص فالواجب إعادة النظر فيه وإيقافه خاصة بعد الأزمة المالية العالمية وبعد انبعاث دور الدولة من جديد. التخصيص ليس تعويضا لمن يرغب في بيع منشآته على حساب الوطن والمواطن، بل هو تحويل منشآت حكومية وخاصة غير مربحة إلى وحدات منتجة تسهم في زيادة الدخل والتوظيف. أما فيما يتعلق ببعض القطاعات الحكومية غير المربحه فالأولى أن تبقى في يد الدولة، أما تخصيصها فسيؤدي إلى رفع الأسعار بسبب ارتفاع التكلفة ومن ثم زيادة الأعباء المالية على المستهلك, وفي هذا إحراج للدولة وللمسؤول. نخلص مما سبق، الأزمة المالية الحالية التي يعاني تبعاتها الآنية العالم أجمع خاصةً أننا فقدنا جزءاً من مدخراتنا الوطنية، ناهيك عن تأثيراتها المستقبلية، يُحتم علينا إعادة النظر وبشكل جدي ومن جديد في وضع استراتيجيات شاملة لكل القطاعات الوطنية آخذين في حساباتنا توجيه الموارد المتاحة لدينا للقطاعات ذات الإنتاجية العالية، ضمن استراتيجية تتعاون فيها الجهات التخطيطية، المالية، الأكاديمية، والإدارية وتحت إشراف وتصميم راسم السياسة الاقتصادية العليا، المجلس الاقتصادي الأعلى. أكاديمي واقتصادي سعودي [email protected]
إنشرها

أضف تعليق