انكشف المستور .. فمَن المسؤول؟

[email protected]

يخلط البعض بين مظاهر التطور الصناعي والتقني في الدول المتقدمة وبين أنظمتها الاقتصادية. فيعتقدون أن التقدم المادي المذهل الذي تحقق لهذه المجتمعات يجعل من نظامهم الرأسمالي نظاما مثاليا متفوقا على ما عداه بشكل مطلق. وهذه مبالغة تثير الشفقة! والحقيقة أن سيطرة الإنسان على المادة لا تعني مطلقا سيطرته على نفسه ودوافعه.
إن حماس البعض لتمجيد النظام الرأسمالي يعود لخلطهم بين مفهوم النظام الاقتصادي والآليات الاقتصادية! فالرأسمالية ليست هي جهاز الأثمان ولا هي الملكيات الفردية بحد ذاتها فهذه مجرد آليات. وهي آليات لا يختص بها النظام الرأسمالي وحده، بل إنها من آليات النظام الاقتصادي الإسلامي أيضا، وهو نظام سابق على الرأسمالية من حيث الترتيب الزمني.
إذن أين تكمن الرأسمالية؟ إنها تكمن في الفلسفة أو الشكل الذي أعطي لهذه الآليات، أي في الحريات المطلقة لعمل الأسواق، وطغيان مصالح الفرد على الجماعة. فعندما تمنح الحكومة الأمريكية حريات مطلقة للمؤسسات المالية لتولد ما شاءت من الديون وتطور ما جاز لها من المشتقات المالية، باسم الحرية والابتكار، دون ضوابط تكبح جماح المديرين التنفيذيين المندفعين لتعظيم مكافآتهم على حساب استقرار النظام وسلامته، فأنت تشاهد فعلا روح الرأسمالية البغيضة في صورتها المتوحشة.
وعندما ترى نظاما يبالغ في فلسفته الفردية Individualism إلى الحد الذي يعطي أصحاب تلك الملكيات حق التصرف المطلق في ملكياتهم، دون قيد أو ضابط كأن يدفنوها معهم في قبورهم، أو يورثونها لحيواناتهم بدلا من أبنائهم، أو يلقون بالقمح في المحيطات أو يخلطونه بالأسفلت عند رصف الطرق حتى لا تنخفض أسعاره، فأنت ترى الرأسمالية في أبشع صورها. ولو تهيأ للمجتمعات الرأسمالية قدرا أسمى من الضوابط الأخلاقية على الحريات لحققت نموا أفضل، أو على الأقل لتجنبت النتائج المأساوية للدورات الاقتصادية العنيفة التي تكتسحها كل حين من الزمن.
وليس للرأسمالية شكل واحد، بل أشكال ودرجات فهي متطرفة في أمريكا وأقل تطرفا في أوروبا، وأكثر إنسانية في اليابان. لذلك من غير المستساغ أن يخرج علينا مَن يمجِّد الرأسمالية مطلقا على علاتها، في الوقت الذي ينتقد علماء وزعماء من داخل تلك المجتمعات مواطن ضعفها.
أذكر أن الأستاذ موريس آليه، أستاذ الاقتصاد في الجامعات الفرنسية، الذي زارنا قبل عشر سنوات، أخبرنا أن النظام المصرفي العالمي التقليدي يحمل في طياته عوامل تقلباته، وأن الاقتصاد الدولي بحاجة لنظام مصرفي ومالي أفضل يقوم على ربط المال بالإنتاج وعلى تسخيره لخدمة الأنشطة الاقتصادية المنتجة بعيدا عن المضاربات المجهدة التي تؤول غالبا إلى تقلب الأسواق تقلبا شديدا.
واليوم أضحى زعماء أوروبا يطالبون بمؤتمر دولي لإعادة ضبط قواعد النظام المالي العالمي. ورئيس وزراء فرنسا "فرانسوا فيون" طالب على هامش القمة الفرنكوفونية التي عقدت في كندا في الأسبوع الماضي أن تكون الحرية "أقل وحشية" وألا يُسمح للولايات المتحدة الاقتراض بلا نهاية على حساب باقي دول العالم. وهو يرى أن هذه الأزمة أسفرت حاليا عن نتائج "مرعبة" على مجمل النظام المالي. ومع أنه لا يرى في الأزمة الحالية إفلاسا للرأسمالية، إلا أنه يعتقد أن الإفراط في منح الحريات وغياب التنظيم قاد إلى هذا المصير.
لكن ميزة المجتمعات الرأسمالية أن ديمقراطيتها تسمح باكتشاف الأخطاء وتعديلها، ولولا ذلك لماتت الرأسمالية قبل الاشتراكية. لكن هذا لا يمنع أن صورها المتطرفة بغيضة وخطيرة على المجتمعات. والإخفاقات التي تصيبها لا ترجع إلى نقص في العقول، بل إلى نقص في الأخلاق! إنها تعود لطغيان المصالح الفردية وغياب الضوابط الأخلاقية باسم الحرية.
الغريب في الأزمة الراهنة أنني لم أر حتى الآن جهة تعلن أنها ستقاضي المتسببين فيها. على الرغم من أن رئيس الوزراء الكندي صرح بأنه بينما يغرق العالم في هذه الأزمة، يسود في بعض الدول وضع تحققت فيه أرباح لجهات خاصة ولكن مع خسائر عامة.
أما بالنسبة لمنطقتنا، فعلى المجتمعات التي تتشدق بالإسلام وتتجاهل ضوابط الشريعة ومقتضيات العدالة أن تدرك أنها ليست بمأمن من قارعة اقتصادية لا تبقي ولا تذر، فعليها الحذر!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي