Author

الاستثمار البحري وأهميته في التجارة الدولية والدور الغائب للقطاع الخاص

|
عرفت التجارة الدولية الاستثمار في الأنشطة ذات العلاقة بالبحار منذ عقود طويلة، حيث خضع هذا النوع من الاستثمار لتطور عبر السنين، فاتخذ في بداية الأمر شكل شركة يتم إنشاؤها بين مالك السفينة وصاحب البضاعة والربان؛ فإذا نجحت الرحلة ووصلت السفينة بالبضاعة المُحملة عليها سالمة إلى ميناء الوصول، وبيعت البضاعة، توزع الأرباح الناتجة عن البيع بين الشركاء طبقاً للاتفاق الذي تم بينهم؛ أي أنه كان يوجد نوع من المشاركة في الرحلة البحرية بين التاجر ومالك السفينة. أما إذا تعرضت السفينة للقرصنة أو هلكت لأي سبب من الأسباب فيخسر المجهز (مالك السفينة) سفينته، ويخسر صاحب البضاعة بضاعته، ويخسر الربان مُقابل عمله. ولهذا فقد حدث تطور يتمثل في اشتراط مالك السفينة حصوله على جعل معين يدفعه له الشاحن (مالك البضاعة)، وذلك بدلاً من المشاركة في الأرباح الناتجة عن بيع البضاعة، وهو ما يعرف بأجرة النقل أو النولون. ثم خضع الاستثمار البحري لتطور ملحوظ، خاصة مع ظهور السفن البخارية بدلاً من السفن الشراعية، فتم تنظيم خطوط ملاحية منتظمة لنقل البضائع وتقديم الخدمات البريدية. ومع اشتداد حدة المنافسة بين المجهزين (ملاك السفن البحرية) وظهور الملاحة الجوية انخفضت أجرة النقل وأصبح هناك إقبال كبير على النقل البحري، خاصة مع العولمة والسعي إلى التقليل من آثار الحدود الدولية، الأمر الذي تطلب وجود شركات ذات رساميل ضخمة، فتم تأسيس شركات ملاحية كبيرة في شكل شركات مساهمة، وتم تكوين اتحادات أو جمعيات لهذه الشركات منذ أوائل القرن العشرين الميلادي الماضي بقصد توحيد شروط النقل ووضع حد للمنافسة بينها ووضع حد أدنى لأسعار النقل, وبذلك أضحى هناك دور مهم للقطاع الخاص في مجال الاستثمار البحري. الحقيقة أن الاستثمار البحري لا يتخذ شكلاً واحداً هو نشاط النقل البحري للبضائع الذي يتم بين المجهز(سواء أكان مالكاً للسفينة أو مستأجراً لها) وصاحب البضاعة، بل إن هناك العديد من الأنشطة الاستثمارية الأخرى التي تتم في نطاق البحار، مثل نشاط نقل الأفراد عبر البحار، ونشاط التأمين البحري الذي ينصب على السفينة ذاتها من ناحية أولى، وعلى البضائع التي يتم نقلها بحراً من ناحية ثانية، وعلى الأفراد الذين يتم نقلهم على السفينة من ميناء إلى آخر من ناحية ثالثة، والنشاط المتعلق بسفن الصيد، ونشاط السياحة البحرية، ونشاط الإقراض والرهن البحريين. ومن المعلوم أن المادة (2/هـ) من نظام المحكمة التجارية السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم 32 في 15/1/1350هـ تعتبر أن كل عمل يتعلق بإنشاء سفن تجارية أو شراعية وإصلاحها أو بيعها أو شرائها في الداخل والخارج، وكل ما يتعلق باستئجارها أو تأجيرها أو بيع أو ابتياع آلاتها وأدواتها ولوازمها، وأجرة عمالها ورواتب ملاحيها وخدمها، وكل إقراض أو استقراض يجرى على السفينة، أو شحنها، وكل عقود الضمانات المتعلقة بها، وجميع المقاولات المتعلقة بسائر أمور التجارة البحرية، تعد من الأعمال التجارية، ومن ثم فإن من يُمارسها يُسبغ عليه وصف التاجر، وتسري عليه أحكام الأنظمة والاتفاقيات الدولية المنظمة للتجارة الداخلية والدولية على السواء. ثم خصص هذا النظام الباب الثاني منه (المواد من 150 إلى 431) للتصرفات التي تتم على السفن التجارية، وضبطها، وبيعها، ومسؤولية صاحب السفينة والربابنة، وشروط استخدام الملاحين وأجرتهم وإيجار السفن، واستئجارها، والركاب، وعقود مقاولات الاستقراض البحري، والتأمين البحري، والخسارات البحرية، وكيفية تسويتها، والدعاوى التي يُمكن أن ترفع في هذا المجال. وعلى الرغم من ذلك فنلاحظ أن أصحاب الرساميل من التجار في السعودية لم يهتموا بهذا النوع من الاستثمار على النحو المطلوب، بكل ما يحققه من مزايا؛ كما أن هناك ندرة في الدراسات الاقتصادية (التي تتناول جدواه الاقتصادية والتسويق له)، وندرة في الدراسات القانونية (التي توضح الجوانب القانونية والإشكالات التي يُثيرها في العلاقات المتعددة التي تنشأ عنه). فالنظام السعودي لم يعالج بشكل واضح كل الجوانب المتعلقة بهذا النوع من الاستثمار، فقد صدر نظام المحكمة التجارية عام 1350هـ أي منذ نحو 70 عاماً، ومن ثم فإنه لا يواكب العديد من المتغيرات الدولية في مجال التجارة الدولية، خاصة بعد الانضمام إلى منظمة التجارة الدولية، فضلاً عن أن هناك العديد من الأنظمة صدرت في السنوات القليلة الماضية، وأخرى تم تعديلها لتواكب متطلبات العصر، ومنها على سبيل المثال نظام العمل الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/51) وتاريخ 26/8/1426هـ، الذي خصص فصلاً لعقد العمل البحري (في المواد من 168 إلى 184)، وهذا يدعو إلى التساؤل عن مدى إمكانية التنسيق بين نصوص هذا النظام ونصوص نظام المحكمة التجارية المنظمة لشروط استخدام الملاحين وأجرتهم (في المواد من 214 إلى 240). والحقيقة أنه بعد انضمام السعودية إلى منظمة التجارة العالمية، وفتح أسواقها أمام البضائع والمنتجات الأجنبية على نطاق واسع، وانتعاش التجارة الدولية فيها، سواء أكانت تجارة استيراد أو تصدير، وتزايد أعداد العمالة، والسائحين، والحجاج، والمعتمرين من جميع بقاع الأرض، فإن كل هذا من شأنه أن يُضفي أهمية خاصة على الاستثمار البحري؛ حيث يُعد من القطاعات الواعدة التي يُمكن أن تُحقق للقطاع الخاص أرباحاً كثيرة، ولا سيما بعد الانهيار الذي تعرضت له سوق المال في الآونة الأخيرة. ولكن الولوج إلى هذا المجال يتطلب إعداد دراسات اقتصادية وقانونية جادة، لإظهار ميزات الاستثمار البحري وعيوبه، مع الاهتمام بإجراء دراسات ميدانية على أرض الواقع للتعرف على المعوقات الظاهرة والخفية التي تعترض المستثمرين في هذا المجال, ولهذا فإن المكاتب الاستشارية الاقتصادية والقانونية الوطنية مدعوة للإدلاء بدلوها.
إنشرها