قرض صندوق التنمية العقارية بين جيلين

طالعتنا الصحف بأخبار تأجيل بعض المواطنين قروضهم الممنوحة من صندوق التنمية العقارية. وأعدت قراءة الخبر أملاً أن سبب ذلك التاجيل هو تغيير الصندوق عادته المزمنة في تأخير القروض ومفاجآته للمواطنين وعلى حين غرة بالقرض. ولكن الخبر أكد أن الانتظار كان لمدة 15 عاماً وأن علة التأجيل كانت ارتفاع الأسعار, ما أدى إلى عدم إمكانية الاستفادة من قيمة القرض وشفع ذلك بطلب رفع قيمة القرض إلى 500 ألف ريال لمواكبة ذلك الارتفاع.
عادت بي الذاكرة إلى جيل السبعينيات الميلادية التي شهدت طلائع أول جيل استفاد من قروض صندوق التنمية العقارية, واسترجعت كيف استطاع ذلك الجيل الاستفادة القصوى من القرض وبناء مساكنهم.
منذ أن بدأ صندوق التنمية العقارية منح قروض في منتصف السبعينيات الميلادية كان ولا يزال وسيظل مبلغ القرض أقل بكثير من المطلوب بتملك مسكن على الأقل في المدن الرئيسة. وتعامل الجيل السابق (أو الجيل الحديدي) مع تلك الحقيقة بعد الاتكال على الله، بعدة معطيات تذكر منها أولاً الإيمان والعزيمة الصادقة, فالجيل الحديدي كان مؤمناً يردد دائماً أن الله يعين على البيت والعرس (تضيف السيدات من الأولى فقط) ، وثانياً تحديد موعد لبدء التنفيذ، فكثيراً ما سمعناهم يرددون إن شاء الله بنبني السنة الجاية أو اللي عقبها ونحوه، وثالثاً التوفير والاقتصاد، فمنذ التفكير في تملك المسكن نجد أن رب الأسرة وجميع أفراد العائلة ذكوراً وإناثاً في حالة استنفار توفيري يدوم عدة سنوات، مصحوباً بإيجاد أعمال إضافية تساعد رب الأسرة على تخفيف العبء المالي وتقصير سنوات الانتظار لبلوغ الهدف. ويضحي الجميع نابذين وراء ظهورهم كثيرا من المتطلبات غير الضرورية ناهيك عن الكماليات التي يندرج تحتها السيارة والسفر. أما رابعاً فيتجلى تكاتف المجتمع في أبهى صوره وذلك بإقراضهم بعضهم بعضا القروض الحسنة ، فما من فرد في تلك الحقبة ألا أدان واستدان من الأقارب والأصدقاء قروضاً حسنة، شعار المقرض (من عسرك إلى يسرك) والمقترض (الله يقدرنا على السداد اليوم قبل باكر), إضافة إلى لجوء البعض إلى الاستدانة من المؤسسات المالية المتوافرة في تلك الأيام (مداينات).
لذا عندما قررت الدولة ـ أعزها الله ـ قروض صندوق التنمية العقارية، أتت تلك القروض مساعدة لتملك الجيل الحديدي للمسكن ومكملاً للمعادلة: توفير واقتصاد + قروض حسنة + مداينات+ قرض الصندوق العقاري= تملك مسكن.
ولم يتوان ذلك الجيل لحظة عن السعي في مناكبها ولم يتوكل على أن السماء تمطر ذهباً ومساكن، ولم يسوقوا الأعذار من قلة مبلغ القرض وارتفاع الأسعار والتضخم. وأرجو ألا يمرر على قارئ كريم بمقولة إن القروض في السبعينيات كانت كافية لتملك مسكن (بناء – شراء )، وإن الغلاء لم يكن فاحشاً، وإن الوظائف كانت وافرة فالعارف بتلك الحقبة يعي تماماً من المشاهدة ومن الإحصائيات الرسمية أن الرواتب كانت بمئات الريالات وآحاد الآلاف فقط ولم تقرر الزيادات إلا في أواخر عهد المغفور له الملك خالد ـ رحمه الله، وفي ذلك الوقت كان شراء جهاز تبريد أو غسل أو تلفاز يثقل كاهل رب الأسرة بما لا يعلمه إلا الله، فما بالك بتوفير مسكن أثناء ((الطفرة العقارية الأولى)) بكل إيجابياتها وسلبياتها وانتقلوا للعيش في مساكن بنوها في أحياء لا خدمات فيها البتة، فاصطحبوا معهم مواطير الكهرباء ووايتات الماء وتحملوا مطبات الطرق غير الممهدة, ولم يكلوا من مراجعة الدوائر الحكومية المعنية بتوفير الخدمات لمنازلهم وأحيائهم.
وما أشبه اليوم بالبارحه فأقول لشبابنا التواقين لامتلاك مسكن إن لكم في جيل آبائكم (الجيل الحديدي) أسوة حسنة, فبعد الاتكال على الله ضع خطة لتملك المسكن تبدأ بتوفير أكبر جزء ممكن من دخلك وأضف إلى دخلك، باستثمار جميع وقتك بدلاً من تمضيته في الاستراحات، كما يجب أن تحافظ على الأواصر العائلية قوية ومتينة, خصوصاً مع كبار السن الذين ستجد تفاعلهم إيجابياً عند الحاجة إليهم لمساندتك، واعرف المؤسسات المالية التي تمول لك شراء المسكن شروطاً ومبلغاً، لأنه من ذلك تستطيع تحديد المبلغ والموعد الذي تستطيعه لتملك المسكن الذي سيكون طويلاً وشاقاً, وتذكر أن المرحلية في التملك (من شقة صغيرة إلى فيلا كبيرة) مطلوبة من مبدأ "مد رجليك على قد لحافك". واذكر هنا مثبطات امتلاك المسكن أملاً في الابتعاد عنها منها العشوائية وعدم التخطيط والادخار، والإنفاق على المظاهر الكذابة (سيارات فارهة – سفر). كما أن من مثبطات الامتلاك وجود مسكن مؤقت (مع الأهل، ومن جهة العمل، أو رخيص الإيجار) والتعلل بغلاء الأسعار (أراض – مواد بناء) أو الاعتماد الكامل على قرض صندوق التنمية العقارية أملاً في رفع سقفه.
إن قرار تملك سكن من أصعب القرارات فهو قرار استثماري طويل الأمد, كبير التكاليف يتطلب من المقدم عليه كثيرا من التضحيات والبعد عن المغريات، والصبر بحجم الجائزة المرتجى (المسكن) لا يختلف في ذلك السعودي عن الياباني أو الأمريكي. وتعامل جيل السبعينيات (أو الجيل الحديدي) مع ذلك القرار بكل واقعية وحكمة وصبر وتضحية ورجولة فهم يعلمون تمام العلم أن السماء لا تمطر ذهباً وأنه لن تجد صباح يوم مفتاح مسكن مفروش يهدى إليك، ولم يؤجلوا قرض صندوق التنمية العقارية تواكلاً، فما نيل المطالب بالتأجيل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي