حقيقة العقل البشري

[email protected]

"ظن القدماء بأن التعصب أمر طارئ على العقل البشري، حيث اعتقدوا أن العقل ميال بطبيعته إلى الحياد في النظر والنزاهة في الحكم، فإذا رأوا إنساناً يتعصب لرأيه غضبوا عليه ولعنوه، ومادروا أنهم مثله متعصبون وأنهم في هذا كمثل ذلك الغراب الذي يعيب غراباً آخر بسواد وجهه، وهو مثله أسود الوجه".
وأيضاً نكمل هذا المقال بعد السابق " إشكالية مآخذ النص " ومع ذات المصدر كتاب " مهزلة العقل البشري " للدكتور علي الوردي، ونتطرق هُنا إلى مسألة الحياد في الرأي، وحريّة الرأي، والتعصب.
بعد قراءتي لهذا الكتاب حقيقة، أعدت قراءة الكثير من الأفكار في نفسي، خاصة فيما يتعلق بتلك الأفكار التي نتمسك بها ونتعصب من أجلها ونواجه الآخر على أنها " الحقيقة " دون حتى أن نبحث عنها أو نتساءل حولها، وننتظر من الآخر أن يتقبلها ويعمل بها، ولكننا إن بحثنا فيها وجدنا أنها ايمانيّات لم تولد سوى من النشأة والمعايشة، وقد يكون الآخر هو كذلك مع فكرته.
نتحجج أحياناً بالمنطق أيضاً، وأنه هو من يوصلنا إلى هذه النتيجة، ولكننا وإن عُدنا إلى ما خلف الفِكرة وجدنا ألاّ منطق ثابت يحكمها بالأساس أو يبدأ بها حتى!، و قد أورد المفكر عن هذا في كتابه قائلاً : (يقول أنشتاين : أن ليس هناك بديهيات ثابتة، إنها في الواقع عادات فكرية ومما يجدر ذكره في هذا الصدد أن الغزالي قد جاء بما يشبه هذا الرأي قبل عدة قرون فلم يفهمه معاصروه وأحسب أن أصحابنا يسخرون منه في قرارة أنفسهم وعلهم يقولون بتهكم: انظر إلى هذا السفسطائي الذي ينكر البديهيات قبحه الله!. ).
ما يعيشه الإنسان في وسط مجتمع يؤمن بأفكار ما ويتعايش معها وينشأ عليها هي ما تجعله يظنّ أنها الحقيقة، ويكبر على أنها كذلك، ويواجه بها العالم، قبل أن يصحو ويجد أن ما زال هناك متّسعا للحديث مع الآخر!.
لذلك كانت أهميّة وجود الآخر المعارض، قد يتواجه ضِدان لكل منهما فِكر مختلف، قد يختلفان ويتعصبان لرأيهما، ولكن لو استمعا إلى بعضهما سيجدان أن هناك خيطاً ما هو ما سيقودهم للفكرة التي تحقق نسبة من الحقيقة.
من الصعب أحياناً أن نجد الفكرة التي نستطيع أن نقول عنها إنها هي الحقيقة، لأنها بالأساس لا توجد حقيقة تامّة! ولكن العَقل كُلّما كَبُر وزادت تجربته كُلّما كان قادراً بشكل أكبر على التوسع في الأفكار الأخرى، وبهذا يستطيع أن يجد أكثر من فكرة تحوم حول أن تكون هي شبه الحقيقة، ويجدر الإشارة هنا إلى أنه لا توجد هناك حقيقة ثابتة، بل هناك حقيقة نسبية فقط وقد أورد ذلك المفكر أيضاً في كتابه: (يقول وليم جيمس: أن الحقيقة ليست إلاّ فرضيّة يفترضها الإنسان كي تستعين بها على حل مشكلات الحياة، فالحقيقة المطلقة غير موجودة وإن هي وجدت فالعقل البشري لا يفهمها أو هو لا يريد أن يفهمها لأنها لا تنفعه في الحياة، إن الإنسان في حاجة إلى الحقيقة النسبية التي تساعده على حل مشكلاته الراهنة، وكثيراً ما يكون الوهم أنفع له من الحقيقة المطلقة المعلقة في الفراغ).
لذلك فالعقل البشري صار عليه الآن أن يوسع من مدارك استماعه إلى الآخر بشكل أكبر وألاّ يتعصب لرأيه لأنه قد يقع هو في إشكالية الخطأ !.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي