سؤال صعب جداً عن الغذاء
سأكتب دون مقدمات...
منذ نحو 20 عاماً مضت، أجرت منظمة الأمم المتحدة استبياناً مكوناً من سؤال واحد عن الغذاء، كان نص السؤال: الرجاء إعطاء رأي أمين حول الحلول المقترحة لمشكلة نقص الغذاء في بقية أرجاء العالم؟. وتم عرض هذا السؤال الصعب جداً على نخبة مختارة من مواطنين من قارات العالم الخمس، وللأسف لم ينجح أحد للتوصل إلى الإجابة الصحيحة!! فلم يتمكن المواطن الذي عرض عليه السؤال في إحدى دول أمريكا الجنوبية من معرفة مدلول كلمة الرجاء Please، أما المواطن في الصين في ظل النظام الشيوعي آنذاك فلم يعرف معنى كلمة رأي Openion، واحتار أحد مواطني أوروبا الشرقية قبل تحررها السياسي للتوصل إلى تفسير معنى كلمة أمين Honest. أما المواطن في الشرق الأوسط المثقل بالمشاكل فقد عجز عن ترجمة كلمة حلول Solutions، بينما أبدى المواطن الأوروبي المتعجرف نوعاً من السخرية عندما سمع كلمة نقص Shortage في الوقت الذي عجز المواطن الإفريقي المسكين عن إدراك معنى كلمة الغذاء Food. وأصدر الكاوبوي الأمريكي الذي يقف على رأس العالم ضحكة مدوية عندما طلب منه معرفة معنى بقية أرجاء العالم Rest of the World.
وبعيداً عن الانفعالات النفسية والاسقاطات السياسية في إجابات هذه النخبة عن هذا السؤال، سنحاول أن نوضح لصديقنا الإفريقي مدلول كلمة الغذاء Food التي لم يدرك معناها في السؤال المطروح. ويُعرف العلماء الغذاء بأنه ما يتعاطاه الإنسان (يومياً) من (مواد) بالأكل أو الشرب ليستعيد بها (طاقته) أو يجددها.
وهذا يعني ببساطة أن الغذاء يعني "الحياة" وأن هناك محددات وعناصر لابد من توافرها لضمان استمرارية الحياة، حيث يمثل الغذاء دوراً أساسياً في سد حاجة الإنسان الجسمانية وهو أيضاً ضروري لصحته العقلية. ويحتاج الإنسان الكامل إلى نحو 2200 كيلو كالوري يومياً في المتوسط قد تزيد أو تنقص حسب عمره أو ظروفه الصحية مع أخذ الطبيعة المناخية في الحسبان، وهو يتحصل عليها من عدة مواد قد يكون مصدرها نباتي أو حيواني.. وهي تضم البروتين الموجود في اللحوم البيضاء والحمراء والأسماك والبقوليات وغيرها، وهي ضرورية للنمو وحفظ سلامة الأنسجة وصيانتها في جميع مراحل العمر، والمواد الهيدروكربونية، حيث تزود النشويات والسكريات في الفاكهة والحبوب الجسم بالحرارة اللازمة لنشاطه، الدهون والزيوت لتجنب نقص فيتامين (أ)، إضافة إلى المياه وعناصر نادرة أخرى مثل الكالسيوم اللازم لنمو العظام وضبط دقات القلب والحديد والنحاس لتفادي فقر الدم (الأنيميا) واليود لوظائف الغدد.
ويبدو أن هذه البيانات والمعلومات الغذائية والصحية بهذه الدرجة من التفصيل ليست مدرجة في قاعدة البيانات المخزنة في عقل وذاكرة صديقنا الإفريقي.. وهنا لابد من الإشارة إلى أنه من نعم الله – عز وجل – على عباده أن تكون بذور النباتات Seeds هي أهم مصدر للتغذية لغالبية البشر على هذا الكوكب، وهي تضم بذور لمحاصيل مهمة مثل الذرة والقمح والأرز والبقوليات والجوزيات التي يمكن استخراج الزيوت أيضاً منها.. ويسجل لنا التاريخ أن المصريين القدماء على ضفاف نهر النيل هم أول من استخدموا البذور لتحضير الغذاء الأول المتكامل للإنسان.
ومن الغريب أن يوجد على سطح كوكب الأرض في وقتنا الراهن 850 مليون من البشر يعانون نقص الغذاء وسوء التغذية ومعرضون للموت، كما أن هناك ملايين أخرى تنتظر هذا المصير في السنوات القليلة المقبلة إذا ما استمرت أزمة الغذاء الحالية.. وفي هذا السياق لابد من عرض حقيقتين في غاية الأهمية:
الحقيقة الأولى:
أن الغالبية العظمى من الدول التي تعاني هذه الأزمة هي من الدول ذات التنمية الاقتصادية المنخفضة والتي يزداد فيها نسبة الفقر المادي – أو ما يعبر عنه فقر الدخل – حيث لا يتجاوز إنفاق الفرد فيها لتغطية الاحتياجات اليومية عن دولارين وهي تضم مجموعة الدول الإفريقية جنوب الصحراء منها كمثال: بوروندي 89 في المائة، بوكينافاسو 81 في المائة، جامبيا 83 في المائة، مالي 90 في المائة، النيجر 85 في المائة.. وكذلك مجموعة دول جنوب شرق آسيا ومنها: نيبال 82 في المائة، بنجلاديش 81 في المائة، لاوس 73 في المائة.. وبعض الدول في أمريكا اللاتينية والكاريبي مثل: نيكاراجوا 80 في المائة والسلفادور 60 في المائة، وهندراوس 44 في المائة، إضافة إلى أرمينيا الدولة الأوربية الوحيدة 50 في المائة.
الحقيقة الثانية:
إن هناك علاقة تبادلية وثيقة بين الفقر ونقص الغذاء وهو ما دعا علماء التنمية الاقتصادية إلى إعادة النظر في تعريف مضمون الفقر في منظومة التنمية البشرية وانعكاسها على مستوى المعيشة واعتبار (الصحة) كأحد الجوانب التي لابد من أخذها في الاعتبار لقياس معدل الفقر، وعليه تم إدخال (خط الفقر الغذائي) كمكون أساس في معادلة الفقر المبني على الدخل كعنصر وحيد.. وذلك بعد أن تبين أن هناك بعضاً من الدول النامية (مصر والصين كمثال) أمكنها تحقيق احتياجاتها الأساسية من السعرات الحرارية اللازمة للإنسان باتباع سلة غذائية تتوافق مع نمط استهلاك الفقراء بها.
وفي الختام لابد أن نشيد بالتحرك الذي حدث أخيرا من المجتمع الدولي ومنظماته الدولية لعرض أزمة الغذاء على طاولة المناقشات بدءاً من قمة روما الشهر الماضي تحت رعاية منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، ثم اجتماع الثمانية الكبار وبمشاركة من بعض الدول النامية في طوكيو باليابان، ومجموعة الدول المتوسطية من شمال إفريقيا وجنوب أوروبا المطلة على البحر المتوسط هذا الشهر وما تم في هذه الاجتماعات الدولية من عرض مجموعة من الحلول لتخفيف وطأة أزمة الغذاء الراهنة من خلال (استعداد) الدول الغنية لتقديم المساعدات للدول المتضررة ودفع فاتورة الاستحقاق المتأخرة عليها من جراء استغلال موارد الدول الفقيرة والأضرار التي ألحقتها الدول الغنية في البيئة وأثرت في صحة كوكب الأرض.
وعلى الرغم من هذه الإشادة فإن السؤال المطروح ماذا سيكون الرد لو تم طرح هذا الاستبيان وهذا السؤال الصعب جداً عن الغذاء مرة أخرى على النخبة (نفسها) التي سبق اختيارها بعد مضي عقدين من الزمن؟؟