إشكالية مآخذ النص
" أهدي هذا الكتاب إلى القراء الذين يفهمون ما يقرأون، أما أولئك الذيم يقرأون في الكتاب ما هو مسطور في أدمغتهم فالعياذ بالله منهم، إنّي أخشى أن يفعلوا بهذا الكتاب ما فعلوا بأخيه " وعاظ السلاطين " من قبل، إذ اقتطفوا منه فقرات معينة وفسروها حسب أهوائهم ثم ساروا بها في الأسواق صارخين ...
لقد آن لهم أن يعلموا أنّ زمان الصّراخ قد ولّى، وحل محله زمان التروي والبحث والتدقيق".
بهذه العبارة "الحادة" بدأ المفكر الدكتور علي الوردي ـ رحمه الله ـ كتابه "مهزلة العقل البشري"، لأنه في كتابه لم يكن يرغب في خطاب العقول المتوقفة أمام فِكر جعله جداراً أعمى بصرها وبصيرتها عن كل الأفكار الحديثة، إنه في هذا الكتاب يحاول أن يوصل بعض المفاهيم الفِكرية التي من شأنها تجديد العقل العربي واستنارته.
لكن لماذا كتب هذا الإهداء في بداية الكتاب؟ وهل كان هناك ما يدعو لأن يفعل ذلك؟ هنا أعود للمقال الذي كتبته سابقاً تحت عنوان " عندما تلوى أعناق الحقائق " وقد وضعت فيه الدكتور محمد عابد الجابري كنموذج لمن وقعوا تحت التصنيف الفِكري البعيد عن الحيادية في قراءة نصه.
ما الذي يجعل القارئ " وربما المثقف أكثر منه " يبحث أحياناً في النص أكثر مما يحتمله النص ذاته؟ هل وصل المثقفون الآن في عقولهم وتلقيهم إلى الحد الذي أصبحوا فيه لا يؤمنون بالنصوص المباشرة؟ أو لا يأخذون النص كما كتبه الكاتب؟ بل أصبحت التأويلات والتعمق في أبعاد النص وإعطاؤه ربما أكثر مما هو بالأصل مكتوباً لأجله .. أصبحت هذه هي القراءة الصحيحة التي يجب أن يصل إليها من قرأ في الفِكر طويلاً؟
الأزمة في أن هذه الإشكالية في الخلط لدى المثقف أو القارئ قد لا تؤثر فيه سلبياً بقدر ما هو قد يؤثر في الآخرين تجاه الكاتب تأثيراً سلبياً، لأنه حين يصل إلى هذه المرحلة مع الكاتب، قد يكتب عنه، وقد يتحدث ذلك، وهناك متلقون آخرون قد يقرؤون وفي أعينهم غطاء الفِكر الذي تلقوه من قبل عن الكاتب، وهذا سيدفع بالضرورة إلى أن يروه كما تلقوه عنه من قبل، وبهذا تذهب جهود الكاتب سدى لأن الرسالة التي أرادها أن تصل، تم تحريفها وانتهاك فكرتها.
لم تؤخذ هذه النصوص بهذا الشكل من قِبل بعض القراء وهي في شكل أو قالب معين، وإلاّ لكانت ربما هي السبب الرئيسي، وقد يعزو البعض ذلك إلى كون وجود نصوص رمزية، لو توقف الأمر عند الرمزية منها لكان هناك سبب منطقي وواضح، ولكن أصبح النص المباشر أكثر عرضة من الرمزية لهذه التأويلات، وكأن القارئ لم يعد يؤمن بأن هناك من يريد أن يوصل رسالته بنص مباشر إلى المتلقي كي يتلقاها الجميع.