الاختصاص القضائي في مجال الطيران المدني والنقل الجوي (2 من 2)

أوضحنا في المقال السابق أن ديوان المظالم هو المختص بالفصل في الدعاوى الإدارية والجزائية المتعلقة بمرفق الطيران المدني، وكذلك يختص ديوان المظالم بالفصل في دعاوى حوادث الطيران سواء كانت هذه الدعاوى تتعلق بالبحث والإنقاذ أو تتعلق بالتعويض عن الأضرار التي تسببها الطائرات للغير على سطح الأرض.
وفي هذا المقال نسلط بعض الضوء على الاختصاص القضائي بشأن الدعاوى المتعلقة بعقود النقل الجوي سواء الخاصة بنقل الركاب أو البضائع. ونشير في البداية في عجالة إلى مفهوم عقد النقل الجوي حيث يعرفه بعض فقهاء القانون بأنه (اتفاق بين طرفين أحدهما الناقل والآخر إما الراكب وإما الشاحن يتعهد فيه الناقل بنقل الراكب أو بنقل بضاعته من نقطة القيام إلى نقطة الوصول بواسطة الطائرة خلال مدة محددة لقاء أجر محدد). ويكاد يجمع فقهاء القانون على أن عقد النقل الجوي وإن كان يقوم على مبدأ الرضائية لأنه يتم بمجرد تلاقي الإرادتين إلا أنه في الواقع عقد إذعان لأن الراكب أو الشاحن ليس له دور في صياغة العقد ولا يستطيع مناقشة شروطه ولا يملك إلا القبول بالشروط الموضوعة من قبل شركات الطيران إن أراد الاستفادة من خدماتها.
وعقد النقل الجوي إما أن يكون داخلياً إذا كان النقل داخل الحدود الإقليمية للدولة وإما أن يكون دولياً إذا تجاوز تنفيذه الحدود الإقليمية للدولة الواحدة.
ولقد قررت المادة (134) من نظام الطيران المدني أن (تكون مسؤولية الناقل الجوي في علاقته مع الراكب أو شاحن البضائع والمرسل إليه مسؤولية تعاقدية وفقاً لعقد النقل الجوي المبرم مع كل منهما، وتخضع لأحكام المعاهدات الدولية المنضمة إليها المملكة، وأحكام هذا النظام، والأنظمة الأخرى، والتعليمات المطبقة).
ولما كانت المادة المذكورة قد أحالت إلى المعاهدات الدولية المنضمة إليها المملكة بشأن المسؤولية التعاقدية للناقل الجوي فإنه يتعين لتحديد المحكمة المختصة للفصل في أي نزاع يتعلق بعقود النقل الجوي الرجوع إلى اتفاقية وارسو بشأن النقل الجوي الدولي المبرمة سنة 1929م. وطبقاً للمادة (28) من اتفاقية وارسو فإن للمدعي المضرور الخيار بين واحدة من أربع محاكم هي:ـ
1- محكمة موطن الناقل الجوي.
2- محكمة المركز الرئيسي لنشاط الناقل الجوي.
3- محكمة الجهة التي تكون للناقل فيها منشأة تولت عنه إبرام عقد النقل الجوي.
4- محكمة جهة الوصول.

وبناء على اقتراح الولايات المتحدة الأمريكية فقد أضاف بروتوكول جواتيمالا المبرم سنة 1971م خيارا خامساً وهو محكمة موطن المدعي أو محل إقامته الدائم إذا توافر شرطان هما:ـ
1- أن تتعلق الدعوى بالأضرار الناجمة عن نقل الركاب أو الأمتعة المسجلة دون نقل البضائع أو الأمتعة غير المسجلة.
2- أن تكون للناقل في هذا المكان منشأة مملوكة له سواء أكانت هذه المنشأة هي التي تولت إبرام عقد النقل الجوي أم غيرها.

ونظراً لأن بروتوكول جواتيمالا لم يدخل حيز التنفيذ بسبب عدم المصادقة عليه من قبل العدد المطلوب من الدول المتعاقدة فإنه ليس في مكنة المدعي الاستفادة من الاختصاص القضائي الخامس وظلت خياراته محصورة في الاختصاصات القضائية الأربعة التي وردت في المادة (28) من اتفاقية وارسو، إلى أن جاءت اتفاقية مونتريال المبرمة سنة 1929م، حيث أضافت خياراً جديداً للخيارات الأربعة الواردة في اتفاقية وارسو وهو (محكمة موطن المدعي أو محل إقامته الدائم والرئيس وذلك وفق الشروط التالية:ـ
1- أن يكون موضوع الدعوى المطالبة بتعويض الأضرار الناجمة عن وفاة المسافر أو إصابته Damages resulting from the Death or lnjury of a passenger: فلا ينعقد الاختصاص لهذه المحكمة بتعويض الأضرار الأخرى الناجمة عن نقل البضائع أو الأمتعة أو التأخير في نقل الركاب أو البضائع أو الأمتعة.
2- أن يكون للراكب وقت وقوع الحادث محل إقامة رئيسي ودائم في الدولة التي يراد عقد هذا الاختصاص لمحاكمها.

ولم يحدد نظام الطيران المدني المحكمة المختصة في المملكة بالفصل في منازعات النقل الجوي إذا اختار المدعي أن يرفع الدعوى أمام إحدى محاكم القضاء السعودي بوصفها محكمة جهة الوصول أو محكمة المركز الرئيسي لنشاط الناقل الجوي أو المحكمة التي يقع في دائرتها أحد الفروع التابعة لمؤسسة الناقل الجوي إذا كان العقد قد أبرم بوساطة هذا الفرع، أو لأي سبب آخر يجيز له رفع الدعوى أمام المحاكم السعودية. ونظراً لأن المستقر عليه في فقه القانون الجوي أن النقل الجوي للركاب والبضائع يعتبر دائماً عملاً تجارياً بالنسبة للناقل الجوي، سواء أكان النقل داخلياً أو دولياً. ولذلك فإن الجهة المختصة بالفصل في المنازعات الناشئة عن عقد النقل الجوي هي المحكمة المختصة بالفصل في المنازعات التجارية. ولذلك وحيث إن ديوان المظالم هو المختص في الوقت الحاضر بالفصل في المنازعات التجارية فإن الدوائر التجارية في ديوان المظالم تعتبر هي المختصة بالنظر والفصل في منازعات عقود النقل الجوي. وسينقل هذا الاختصاص إلى المحاكم التجارية الجديدة التي من المقرر إنشاؤها بموجب نظام القضاء الجديد الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/78 وتاريخ 19/9/1428هـ.
وجدير بالذكر هنا أن ديوان المظالم يختص بالفصل في المنازعات المتعلقة بعقود النقل الجوي التي تبرمها المؤسسة العامة للخطوط الجوية العربية السعودية مع الغير، لا بصفته هيئة قضاء تجاري وإنما بصفته هيئة قضاء إداري لأن هذه المؤسسة تعتبر بموجب المادة الأولى من نظامها الصادر بالمرسوم الملكي رقم م/24 وتاريخ 18/7/1385هـ مؤسسة عامة مستقلة تتمتع بالشخصية الاعتبارية وترتبط بوزارة الدفاع والطيران، أي أنها أحد الأشخاص المعنوية العامة وبالتالي فإن المنازعات الناشئة عن العقود التي تبرمها مع الغير بما في ذلك عقود النقل الجوي للركاب والبضائع تدخل ضمن الاختصاص القضائي للديوان سواء بموجب نظامه السابق حيث حددت الفقرة (د) من المادة الثامنة من ذلك النظام اختصاصات الديوان ومنها الفصل في (الدعاوى المقدمة من ذوي الشأن في المنازعات المتعلقة بالعقود التي تكون الحكومة أو أحد الأشخاص المعنوية العامة طرفاً فيها)، أو بموجب نظام ديوان المظالم الجديد حيث قررت الفقرة (د) من المادة الثالثة عشرة من هذا النظام أن تختص المحاكم الإدارية في ديوان المظالم بالدعاوى المتعلقة بالعقود التي تكون جهة الإدارة طرفا فيها. وسينتهي هذا الاختصاص إذا تم تخصيص المؤسسة العامة للخطوط الجوية العربية السعودية وحولت إلى شركة مساهمة تجارية حيث ستصبح عندئذ المحاكم التجارية هي المختصة في جميع الدعاوى المتعلقة بعقود النقل الجوي التي تبرمها هذه الشركة مع عملائها شأنها في ذلك شأن سائر مؤسسات وشركات الطيران الأخرى.
وفي الختام نقترح أن تنشأ ضمن المحاكم التجارية الجديدة دوائر خاصة للفصل في المنازعات المتعلقة بعقود النقل الجوي وعقود النقل البحري تتكون من قضاة متخصصين لأن طبيعة هذه العقود والمعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تنظم وتحكم العديد من جوانبها المختلفة تستوجب أن يكون القاضي الذي يفصل في المنازعات المتعلقة بها، من ذوي الدراية الواسعة والخبرة العميقة بالقانون الجوي والقانون البحري.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي