المياه والغذاء والطاقة.. علاقات متشابكة

خلال الفترة من الثالث إلى الخامس من حزيران (يونيو) 2008، تم عقد مؤتمر دولي على جانب كبير من الأهمية للبشرية كافة بعنوان: "المؤتمر الدولي لندرة الغذاء: تحديات التغيرات المناخية والطاقة الحيوية"، تحت رعاية منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) FAO في مقرها في العاصمة الإيطالية روما، بحضور 43 من قادة وزعماء العالم يمثلون مختلف الدول الفقيرة والغنية أيضا، وبمشاركة تجمع من منظمات دولية وخبراء ومستشارين يزيد على 4400 مشارك من المهتمين بالزراعة والبيئة والغذاء. وتم خلال المؤتمر عرض أوجه النظر المختلفة ومناقشة العديد من القضايا المرتبطة بالأمن الغذائي العالمي وتأثير التغيرات المناخية Cimate Chages والتحديات التي تواجه العالم في الفترة المقبلة من جراء التوجه نحو الطاقة الحيوية Bio-Energy على حساب المحاصيل الزراعية.
كما تم فتح حوار حول ظاهرة ارتفاع الأسعار المستوردة للغذاء ودور السياسات التجارية في النهوض بالإنتاج الزراعي في الدول النامية.
وتم في الجلسة الختامية للمؤتمر إصدار (إعلان روما) الذي طالب بضرورة وضع خطة عمل لمواجهة أزمة الغذاء العالمية المتفاقمة والأسعار غير المسبوقة لأسعار المحاصيل الزراعية والعمل على مضاعفة إنتاج الغذاء بحلول عام 2030، ووضع مدونة للسلوك الدولي الأخلاقي في إنتاج الوقود الحيوي على حساب المنتجات الغذائية. وتعهدت القمة بمحاربة الجوع وتقديم مساعدات دولية لأكثر من 850 مليونا من البشر في 20 دولة يواجهون أزمة الغذاء ومعرضين لسوء التغذية والموت البطيء بسبب نقص الموارد الغذائية وارتفاع أسعارها، وبنظرة موضوعية فإن التوصيات الواردة في الإعلان الختامي لا ترقى إلى المستوى المطلوب لأزمة دولية يعاني منها سُدس سكان العالم ومع توقع زيادة هذه النسبة في السنوات القليلة المقبلة ولنا في ذلك ثلاث ملحوظات.

الملحوظة الأولى:
إن هناك إجماعا على أهمية تلك الأزمة بكونها أزمة (دولية) مع ذلك فإن هناك تباينا واضحا من قبل الزعماء المشاركين في المؤتمر في أسلوب تجاوزها والحد من آثارها مما أظهر أن هذا المؤتمر القمة يبدو كما لو كان محفلا لتبادل الاتهامات بين الدول النامية والمتقدمة. فهناك من يرى أن الأزمة تتصل بأسعار المحاصيل الزراعية وليس ندرتها والبعض الآخر يرى ضرورة رفع القيود التجارية للدول ذات المخزون الغذائي الزائد ويرى البعض أنها مجرد أزمة اقتصادية تتمثل في حجم زيادة المساعدة المالية من قبل الدول الغنية ومن الضروري أن تسهم في رفع المعاناة عن الدول النامية لمواجهة ظاهرتي الجوع والفقر، بينما يؤكد البعض أن أسعار النفط المرتفعة جزء لا يتجزأ من مشكلة أسعار الغذاء. وفي كل الحالات فإن الأزمة قائمة لا يتوقع حلها آنيا والجميع في انتظار ما تسفر عنه توصيات مجموعة العمل المشكلة من قبل الأمم المتحدة لمتابعة الأزمة خلال قمة شرم الشيخ المقبلة في آخر هذا الشهر وقمة الثماني في اليابان الشهر المقبل واجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2008.

الملحوظة الثانية:
من المفارقات العجيبة أن يتزامن الإعلان الختامي لمؤتمر الغذاء الدولي في روما في مناسبة الاحتفال العالمي بيوم البيئة العالمي (الخامس من يونيو من كل عام) في ظل (جدل) غير مبرر عن موضوع بالغ الأهمية عن تحديات التغير المناخي وتأثير ذلك في الزراعة في الوقت الذي تلجأ فيه بعض الدول إلى تحويل المحاصيل الزراعية خاصة الذرة إلى وقود حيوي، وأن هذه الدول (الولايات المتحدة، ودول أمريكا اللاتينية، وبعض دول الاتحاد الأوروبي) لا ترى الربط بين إنتاج الوقود الحيوي وأسعار الغذاء المرتفعة وهي تؤكد في الوقت ذاته على استمرارها لتلبية الطلب على جميع أنواع الوقود الحيوي كطاقة بديلة لمواجهة الزيادة المطردة في أسعار النفط والغاز الطبيعي (الأحفوري) والتخوف من نضوبه، وأنها تعمل ذلك من أجل حماية البيئة والحد من التلوث.

الملحوظة الثالثة والأخيرة:
أثار المؤتمر موضوعا بالغ الخطورة يتعلق بمدى العلاقة التبادلية بين الغذاء والطاقة فالمعلوم للجمع أن إنتاج الغذاء منذ بدء الخليقة وممارسة الزراعة لا يمكن أن تتم بمعزل عن توافر الطاقة مهما كان تنوع صورها سواء كانت ميكانيكية أو كهربائية، أو غيرها، ولكن الجديد في هذه العلاقة ما حدث أخيرا خلال السنوات القليلة الماضية عن إمكانية استخدام الغذاء من المحاصيل الزراعية (الحيوية) لإنتاج وقود حيوي أو طاقة حيوية، ومع ذلك فلم يتعرض الحوار الدائر في أروقة المؤتمر عن ماهية عنصر ثالث وأساسي غائب في معادلة الغذاء والطاقة وهو (المياه) وأن إنتاج الغذاء وتوليد الطاقة لا يمكن أن يتم بمعزل عن المياه، فالمياه والغذاء والطاقة أضلاع في مثلث متساوي الأضلاع وهي تشكل معا منظومة متكاملة مطلوبة لاستمرارية الحياة على هذا الكوكب، ويكفي للدلالة على العلاقة المتشابكة لهذه العناصر الثلاثة أن نشير إلى إجمالي مساحة الأراضي الزراعية في العالم التي تؤمن الغذاء في الوقت الراهن تزيد على 1.4 مليار هكتار وهي تحتاج إلى كمية في حدود خمسة تريليونات متر مكعب سنويا، يتم تدبيرها من المياه الطبيعية المتجددة من الأمطار والأنهار والمياه الجوفية والمياه غير التقليدية الأخرى. وأن أي إضافة لهذه الرقعة الزراعية لتغطية الطلب على الغذاء أو الطاقة الحيوية يعني بالضرورة (تدبير) مياه إضافية وأن ذلك يتم باستخدام مزيد من الطاقة أيضا.
من ناحية أخرى فإن للمياه دورا واضحا في إنتاج الطاقة الكهرومائية سواء من الشلالات والمساقط المائية أو من خلال محطات المياه المنتشرة على سواحل البحار في العالم وهي تسهم بنحو 15 مليون برميل بترول مكافئ يوميا أي 6 في المائة من إجمالي استهلاك العالم من الطاقة حسب تقديرات عام 2005.
الخلاصة أن المياه والغذاء والطاقة هي عناصر لمعادلة رياضية معقدة من الدرجة الثالثة وأن حل هذه المعادلة يحتاج إلى عالم في الرياضيات له دراية كافية بالشؤون السياسية، والتنمية البشرية، والعلاقات الاجتماعية، والمستجدات التقنية إضافة إلى الجوانب الاقتصادية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي