تعرية السّجون
نحنُ لا نبحث عن المتعة، حين نقرأ الحزن، ولا عن الحب حين نقرأ الرحيل، ولا عن الحرية حين نقرأ السجون!
أتعرفون تلكَ الشهقات الصغيرة؟ التي تنزلق منّا فجأة دون وعي؟ تلك التي تباغتنا في لحظة اندهاشاتنا؟ تلك التي تنزع عنّا غطاءنا فجأة، لتتركنا في مهب الريح، قبل حتى أن نسمع صفير الرّياح فندرك ما نحنُ مقبلين عليه، وفجأه نجدنا عارين؟ مندهشين؟ صامتين في ضجيج البرد؟
لا يكون العيش هناك عادياً، بل كان أشبه بمحاولة طرد فكرة الحياة من الذاكرة، وانتظار الموت الآتي من بعيد، يحثّ قدميه ببرود، حياة السجون هي ليست بالعادية، لأنها تسلب أبسط حقوق الإنسان "الحرية" فكيف وإذ معها، كل تلك العذابات التي تعرض لها أولئك المسجونين؟ لذلك لا تكون الكتابة عنها عابرة، لأن أولئك الكتّاب يخطّون المآسي بصدق.
خرج "أدب السجون" كفنّ أدبي قائم بحد ذاته، أصبحت الروايات التي تكتب به أشبه بالسيّر الذاتية، بعضها جاء حقيقياً واقعياً والبعض الآخر منها كان أقرب إلى ذلك، ومن أكثر روايات أدب السّجون شهرة، رواية " تلك العتمة الباهرة " للطاهر بن جلون التي تروي حكاية "سالم" في سجن تزمامارت في المغرب، و رواية "السجينة" لمليكة أو فقير وأيضاً عن حكاية سجن عائلة أو فقير في المغرب وقد تنقّلوا بين الكثير من السجون هناك، ورواية " شرق المتوسط " لعبد الرحمن منيف، التي ذكر فيها في مقدمة الطبعة الثانية عشرة أنه قصّد ألاّ يذكر في الرواية عن أي سجنٍ يتحدث حتى لو لم تكن الرواية حدثت فعلاً ولكنها قد تحدث هناك كثيراً وقد اكتفى بالإشارة إلى أنّها في الشرق المتوسط قائلاً في مقدمته كذلك إنّ الدّول باتت تغمض عينيها عن الرواية
وتنكر أنها عن واقعها وتدير أعينها للدول الأخرى، وقد كان الخوف من عدم نشر الرواية أحد أسباب منيف لئلا يذكر في أي سجن ذلك، وقد كانت أحد الأعمال التي أسست فن "أدب السجون" عام 1972م ـ كما ذكر في مقدمته، ورواياته الأخرى كذلك " أرض السواد " المكونة من ثلاثة أجزاء وتحكي عن السجون العراقية وهي أيضاً قيل عنها إنها لم تكن حقيقية، ولكن ما يحصل في السّجون في العالم لا يقلّ شناعة عمّا كُتب في هذه الأعمال وغيرها، إن هذا الأدب عرّى أمام القُراء الحقيقة التي لم نكن ندركها ولا نعلم عنها.
رغم أنّ كُلّ ما يُكتب في هذا الأدب يحكي قصص "اللإنسانية" والواقع المرير الذي يحدث في السّجون إلاّ أنه أكثر أدب " إنساني " وصل للقارئ، حيث إنّها تصوّر المآسي والآلام التي يتعرّض لها أولئك المسجونون بطرق بشعة جداً، وما يؤلم أكثر حين تكون سجونا عربيّة وتفعل ذلك مع العرب، فيتعاطف القارئ معهم ويعيش مأساتهم، وأستطيع القول حقاً إن هذا الأدب من أعظم الآداب بعثاً للرسائل رغم مرارة التعرّي الذي تفضحه.