مستقبل منظمة التجارة العالمية

مما لا شك فيه أن إنشاء منظمة التجارة العالمية في العقد الأخير من القرن الـ 20 الميلادي الماضي يُعد حدثاً مهماً تميز به القرن الـ 21، نظراً لأن الآثار التي تترتب على انضمام الدول لتلك المنظمة تتحقق تباعاً خلال هذا القرن، سواء أكانت آثاراً إيجابية أو سلبية.
وقد تناولت في عدد من المقالات جوانب مختلفة لتلك المنظمة، وأتناول في هذا المقال جانباً آخر مهماً يتعلق بمستقبلها والتحديات التي تواجهها. فقد أظهرت الدراسات والبحوث المتخصصة التي تم إجراؤها في المجالين القانوني والاقتصادي على تلك المنظمة أن هناك العديد من الآثار الإيجابية لها: أهمها أن إنشاءها يترتب عليه أثر مهم وهو تحرير التجارة الدولية، وذلك بإزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة حجم المبادلات التجارية الدولية، ومن ثم تلبية حاجات الدول المستوردة للسلع بإتاحة السلع لها بسهولة، كما يؤدي ذلك إلى تحقيق مصالح الدول المصدرة للسلع، وهي غالباً من الدول المتقدمة، حيث تفتح أمامها أسواق العالم دون قيود، فيترتب على ذلك زيادة دخلها الوطني.
وهناك ميزة أخرى تترتب على الانضمام لمنظمة التجارة العالمية وتفعيل نصوص اتفاقياتها وخاصة تلك المتعلقة بإلزام الدول الصناعية أن تلغي تدريجياً الدعم الذي تقدمه لمواطنيها وشركاتها فيما يتعلق بالإنتاج الزراعي، الأمر الذي يترتب عليه إتاحة الفرصة أمام الدول النامية لكي تصدر منتجاتها الزراعية والحيوانية وغيرها للدول المتقدمة. ويترتب على تخفيض الرسوم الجمركية على السلع الأساسية من مستلزمات الإنتاج وغيرها طبقاً لاتفاقيات الجات تخفيض تكلفة الإنتاج المحلي في الدول النامية ما يساعدها على زيادة إنتاجها وتصدير جزء منه.
كما أن هناك ميزة نسبية يمكن أن تستفيد منها الدول النامية؛ حيث يترتب على تحرير تجارة الخدمات أن تتاح الفرصة لها للوصول إلى التقنية المتقدمة بمختلف جوانبها وأنواعها.
فضلاً عن أن هناك مبدأ مهم تقوم عليه منظمة التجارة الدولية وهو مبدأ المنافسة المشروعة كأساس للتبادل التجاري بين الدول الأعضاء، يترتب عليه سعي هذه الدول إلى العمل على زيادة قدرتها الإنتاجية وتحسين جودتها حتى تتمكن من البقاء في السوق العالمي؛ كما يحفزها على الاهتمام بالتصنيع والصادرات لإيجاد روافد لزيادة الدخل الوطني.
وقد أدرك أصحاب القرار عند انضمام السعودية لتلك المنظمة أهمية التصنيع والصادرات غير النفطية في المرحلة المقبلة، فاتخذت خطوات عملية في هذا المجال تتمثل في تحسين القدرة التنافسية للقطاع الخاص، لارتباطها الوثيق بالقدرات الإنتاجية لهذا القطاع في مختلف الأنشطة الاقتصادية، والتي تعد حجر الزاوية في تحسين الصادرات الوطنية وفتح آفاق لها في الأسواق العالمية؛ وتشجيع عمليات التخصيص والإسراع في تنفيذ برامجها للاستفادة من اتفاقية التجارة في الخدمات؛ وتعبئة المدخرات الخاصة وتوجيهها لتمويل المشاريع العامة التي تعاني مشكلات تمويلية؛ وذلك عن طريق التوسع في منح القطاع الخاص عقود الإدارة والتشغيل للمشاريع العامة، ونقل ملكية المشاريع الخدمية من القطاع الحكومي إلى القطاع الخاص لتدار على أسس تجارية، وتوفير الحوافز، وتطوير سوق الأوراق المالية؛ وتشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر.
ومن أهم الميزات التي تحققها منظمة التجارة العالمية هو أنها قد أوجدت نظاماً متعدد الأطراف لتسوية المنازعات الدولية متعددة الأطراف وهو نظام يتسم بالحيدة والموضوعية، الأمر الذي يطمئن الدول النامية إلى أن شركاتها ومواطنيها سيعاملون على قدم المساواة مع شركات ومواطني الدول المتقدمة، وذلك تطبيقاً لمبدأ عدم التمييز الذي تقوم عليه تلك المنظمة.
والحقيقة إن هذه الميزات النسبية التي تتحقق نتيجة الانضمام لمنظمة التجارة العالمية تقابلها آثار سلبية، ولكن تلك الآثار تختلف باختلاف الدول الأطراف، فالأثر المترتب على سريان اتفاقات المنظمة المتعلقة بسلعة معينة يختلف بحسب ما إذا كانت منتجة ومصدرة أو مستوردة لها. كما تختلف تلك الآثار باختلاف وقت سريانها، وباختلاف الوضع الاقتصادي للدولة سواء أكانت دولاً متقدمة أو نامية. ومن ثم فإننا نرى أن التعامل مع تلك الآثار يجب أن يتجاوز مرحلة رصدها وتسجيلها وتحليلها إلى مرحلة التعامل معها ومواجهتها بحلول عملية باتخاذ التدابير اللازمة.
وعلى ذلك فإن بحث مستقبل تلك المنظمة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنوعين من التحديات: النوع الأول تحديات تنظيمية تتعلق بالقواعد التي تنظم سير عملها من حيث اختصاصاتها ونطاق عملها مع الدول الأعضاء التي تشكل الغالبية العظمى من دول العالم، وهو ما يتطلب منها وضع استراتيجية ذات أبعاد اقتصادية متعددة والعمل المكثف لمواجهة الأعباء الملقاة على عاتقها. أما النوع الثاني من التحديات فهو التحديات الواقعية، التي تتطلب من تلك المنظمة اتخاذ الترتيبات اللازمة لمواجهة الظروف الاقتصادية التي تسود العالم بما يتضمنه من دول متقدمة ودول نامية ومحاولة التوفيق بين المصالح المتعارضة لكل منها؛ فضلاً عن أن من بين التحديات الواقعية التي تتطلب وضع حلول لها مسألة الجزاءات والتدابير التي يمكن أن توقع على الدولة التي لا تلتزم بتعهداتها الاتفاقية تجاه المنظمة وتجاه الدول الأعضاء. يضاف إلى ذلك أن هناك عدداً من النصوص التي تسمح بوجود إعفاءات واستثناءات من بعض أحكام اتفاقيات الجات، مما يتيح الفرصة لبعض الدول الأعضاء لأن تتحلل من بعض التزاماتها الدولية تحللاً مشروعاً الأمر الذي يؤثر في فاعلية المنظمة؛ ناهيك عن الاعتبارات السياسية التي يمكن أن تلعب دوراً مؤثراً في التحلل من بعض الالتزامات الدولية تجاه المنظمة وتجاه الدول الأعضاء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي