الوعي المالي للمواطن.. مسؤولية من؟

تحدثت في مقال سابق عن الاستثمار في التعليم وكيف أن تمكين الفرد يبدأ مبكراً بإعطائه الوسيلة والعلم وتركه لينتج ويبتكر. ولا يكاد يخلو حوار صحافي من السؤال "من المسؤول عن التوعية المالية للمستثمر؟".
ما زلت أعتقد أن طلب العلم هو مسؤولية الفرد نفسه، ولكن في ظل التعقيدات الاقتصادية والمجتمعية التي نعيشها اليوم يحتاج الفرد إلى مساعدة من عدة جهات لتثقيفه مالياً، والمسألة أصبحت أكثر تعقيدا من مجرد الخيار المالي الصحيح.
وبما أن البنوك هي المستفيد المباشر من السيولة الموجودة في الاقتصاد فإن عليها مسؤولية توعوية مباشرة تجاه المجتمع الذي يتعامل معها.
بنهاية 2006 زاد مؤشر ن 1 (مقياس العرض النقدي) بمقدار 20 في المائة على العام السابق وذلك برغم انهيار سوق الأسهم. وبنظرة سريعة إلى الأرقام المعلنة من البنوك نجد أن متوسط الأرباح الصافية net profit الذي حققته أربعة بنوك سعودية فقط (سامبا، الراجحي، العربي، والفرنسي) في الربع الأول من 2008 قد بلغ 1.1 مليار ريال تقريباً وبلغ متوسط الزيادة في ودائع العملاء بين عامي 2006 و2007 (اثنين وعشرين) 22 في المائة.
وبنظرة شاملة نجد لدينا نموا اقتصاديا قويا وسيولة وفيرة وهناك بنوك تزداد ربحيتها بالازدهار الاقتصادي وكذلك هناك مستثمر ومتعامل لا يعرف أسس الاقتصاد ولا أصول الإقراض ولا عوائد ومخاطر الاستثمار ولا أهمية الادخار المبكر وينهار في أول مطب اقتصادي مثل سوق الأسهم عام 2006.
إذن هناك حلقة مفقودة.. هل يمكن في هذه الحالة إلقاء اللائمة بالكلية على جهل المواطن؟
إنها منظومة متكاملة يجب أن تتلاحم لتعمل بكفاءة، فإذا تعلم المواطن تحسن وضعه المالي بشكل أو بآخر وبالتالي تنخفض المخاطر الائتمانية الاستهلاكية وأصبح بمقدور البنوك أن تقوم بإقراض واستثمار تنموي جيد في المجتمع وهكذا.
منذ عامين قامت هيئة السوق المالية بإصدار كتيبات تعليمية عن "الاستثمار" مطبوعة بشكل جرافيكي محبب وبلغة مبسطة تخاطب الإنسان العادي. وتتضمن المواقع الإلكترونية لبعض البنوك صفحات تعليمية وتثقيفية عن العمليات المصرفية والاستثمارية ولكنها عادة ما تشير إلى منتج البنك في النهاية كخيار أفضل. وإذا كان المطلع حاذقا نوعا ما فإنه يقوم بأخذ "لـفّـة" على البنوك أو مواقعها الإلكترونية لمقارنة المنتج المعني.
إذن ما العمل؟ كيف تفي البنوك بواجبها التوعوي نحو المجتمع؟ هل ينبغي إصدار قانون يلزم البنوك والمؤسسات المالية بتخصيص ميزانية للتعليم الاستثماري والمالي؟ هل يجب أن تلتزم بعدد معين من الدورات سنوياً مجاناً؟ هل تقوم بإلقاء محاضرات في المدارس والجامعات؟
كلها خيارات ممكنة وسأضرب فيما يلي أمثلة من الخارج لمعرفة ما يمكن عمله والذي يمكن أن يتحول إلى معايير حديثة لهذا القطاع.
في عام 2004 تطوع 200 موظف من البنك الأمريكي العملاق سيتي Citigroup بتدريب أكثر من خمسة آلاف شاب وفتاة من المدارس على أهم مبادئ الائتمان وتعليمهم ما يجب عمله أو تجنبه عند التعامل بالبطاقات الائتمانية، وكان ذلك ضمن فعاليات "يوم التعامل الذكي مع الائتمان". وفي هذا اليوم يتطوع آلاف من موظفي البنك في أكثر من 40 مدينة أمريكية بزيارة المدارس والمعاهد والكليات وتجمعات الشباب وتعليمهم أصول التعامل الائتماني وكيفية عمل موازنة للمصروف ودفع الأقساط وما إلى ذلك. وتقول رئيسة المؤسسة التعليمية بهيئة المصرفيين الأمريكيين إن الخيارات التي يقوم بها الشباب عند استخدامهم البطاقة الائتمانية للمرة الأولى تؤثر في حياتهم، فيما بعد حين يتقدمون لطلب قرض شراء سيارة أو منزل. وقد استفاد من هذا البرنامج أكثر من نصف مليون طالب وطالبة في عام 2003.
في عام 2007 قام البنك الأمريكي نفسه باستطلاع شمل أكثر من 1800 من طلاب المرحلة الثانوية بهونج كونج وقد أظهرت النتائج ما يلي:
* 14 في المائة من العينة يقومون باستثمار أموالهم فعلا.
* 45 في المائة تؤمن بالاستثمار في الأسهم كوسيلة لتنمية الثروة على المدى الطويل.
* أكثر من 50 في المائة يودع أمواله بحسابات ادخار و10 في المائة فقط يدخرون أموالهم عند أبويهم.
* أكثر من 50 في المائة يعتقد بأن معدل عائد قدره 5 في المائة هو معدل معقول و20 في المائة يطمح إلى أن يفوق العائد نسبة التضخم.
في عام 2007 أعلنت المفوضية الأوروبية تبنيها برنامج التوعية المالية لمواطني دول الاتحاد الأوروبي، مشددة على أهمية فهم المنتجات المصرفية والاستثمارية المتعددة وما لذلك من نتائج إيجابية على العملاء والاقتصاد والمجتمع. ووفقاً لأحد المسؤولين فإن عددا كبيرا من المتعاملين يجهل المبادئ الأساسية للمنتجات والخدمات المالية ولا يختارون ما يناسب احتياجاتهم ولا يحتاطون لمستقبلهم. ويعتبر المسؤول أن التعليم المالي هو العنصر الرئيس لتمكين المواطن من عمل الخيارات المالية الصحيحة. ويوصي المسؤول الدول الأعضاء والمصارف ومنظمات المستهلك باتخاذ الإجراءات المناسبة لتثقيف المواطنين في الأمور المالية.
أظهر استطلاع في ولاية نيويورك الأمريكية في كانون الثاني (يناير) الماضي أن 54 في المائة من البنوك تطبع نشرات التعليم المالي بلغات إضافية غير الإنجليزية وبنسبة 74 في المائة للغة الإسبانية و18.5 في المائة للصينية والنسبة المتبقية بلغات أخرى مثل الكورية والروسية والفيتنامية. بالطبع يعود ذلك لتعدد الثقافات ونسب المقيمين في ولاية نيويورك بالذات، الذين يشكلون الشريحة الكبرى من الطبقة العاملة المتوسطة والدنيا هناك.
مع مراعاة الفارق الديموجرافي والاقتصادي وبناء على ما سبق، فإنني أوصي بأن تقوم المصارف جماعياً بتخصيص جزء من ميزانية "برامج المجتمع" الخاصة بها لتأسيس هيئة "لا بيروقراطية" لتنظيم الأنشطة التعليمية المالية في المدارس والجامعات وغيرها. كذلك أوصي بأن تدير الأنشطة مجموعة من الشباب المتحمس النشط مع توفير جميع الاحتياجات لهذه المهام دون الاصطدام بالعوائق الهيكلية المعتادة.
يمكن أيضاً للمصارف أن تدعم إقامة ندوات مجانية تستضيف أكاديميين من الجامعات والمعاهد المالية للإجابة عن الأسئلة المالية التي تدور في الأذهان.
أوصي كذلك دور النشر بالتعاون مع البنوك لنشر الكتيبات التوعوية وتوزيعها مجانا على أكبر قدر من المواطنين من خلال أماكن العمل الحكومية والخاصة وغيرها.
والخلاصة أن هناك عديدا من الوسائل التي يمكن تبنيها لتحسين وضع المستهلك والمستثمر ذهنيا وفكريا وبالتالي اقتصاديا ولكن يجب علينا التكاتف والعمل معا دون ملل لتحقيق هذا الهدف، والله الموفق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي