ماركيز .. القدرة على إحياء الكلمة!
لا أعول على ذاكرتي كثيراً، تلك التي لا تملك من نفسها شيئاً، ولكن هي البدايات، هو التعلق، وحدها التي تستطيع بجدارة حفظ الذاكرة لأبعد مدى ممكن، علاقتي بالأسماء وبالأصوات وبالوجوه سيئة، إلاّ مع تلك التي تخجل الذاكرة من نسيانها أبداً .. وإني ممتنة لذاكرتي لأنها ومنذ المرور الأول احتفظت برائد الأدب اللاتيني " غابرييل غارسيا ماركيز ".
بدأت مشواري الأول مع القراءة مع رواية "عن الحب وشياطين أخرى" له، كانت تتحدث الرواية عن فتاة صغيرة عاشت في قصر والدها مع الخدم حتى تعلمت منهم الشعوذة وأمورهم الأخرى، فقام بنقلها إلى دير لتتعلم هناك.
ثم كانت رواية "خبر اختطاف" له، تلك التي تتحدث عن اختطاف صحافيين لأغراض سياسية، قام المختطِفون بفصل المختطَفين إلى مجموعتين، وكان في وصفه مدهشاً حيث كان كأنه يلتقط لك في كل مرة صورة لإحدى المجموعتين وأحوالهما، على الرغم من أنه كان مع كل دخول لشخصية جديدة ستؤثر في الحدث كانت تسرد سيرته الذاتية من البداية وتأخذ في السرد أحياناً صفحتين مما كان يشتتني أحياناً عن حدث الاختطاف ذاته، ولكنه في تصويرا ته المتجددة كان يعيدني مرة أخرى،
انتقلت بعدها إلى روايته " عاصفة الأوراق " تلك التي استخدم فيها طريقة " الفلاش باك " حيث كان يروي حكاية الرجل الذي توفي ولم يحضر عزاءه سوى طفل وأمه ووالدها، وكان هذا الطفل هو من يحكي سبب عزوف بقية المدينة عن حضور موته، وسرد في الرواية أحداث حصلت لهذا الرجل منذ أن جاء إلى هذه المدينة.
ثم قرأت مجموعته القصصية "ارنديرا البريئة وجدتها الضارية" ولكني لم أجد ماركيز الروائي ذاته في هذه المجموعة، لم أستطع الشعور بنفسه الروائي الذي أحببته فيها، لم أكن أستطيع تقبل "القصر" لديه لأني اعتدت على سرده الدقيق للتفاصيل في الرواية.
"مائة عام من العزلة" الرواية الأكثر شهرة له، تباينت الآراء حول هذه الرواية وتناقضت كثيراً، وربما السبب في ذلك هو سردها الطويل، حين كتب عن تلك القرية النائية التي تسكن وحدها وبأهلها دون أن يحدث لهم أي حدث مفاجئ كثيراً، لأصدق القول شعرتُ ببعض الملل في هذه الرواية ولكن مجرد التفكير في الفكرة التي طرحها ماركيز والكتابة عن قرية ناءت مائة عام في عزلة ومحاولة خلق أحداث يومية فيها كان كفيلاً لإثارة خيالي معها، ولكني لستُ على يقين من تفكيري الجدي في محاولة إعادة هذه التجربة معه ولا أعتبرها أفضل أعماله أبداً لأني قرأت له ما هو أفضل بكثير.
قد تغيب الأحداث الكثيرة في أعمال ماركيز، ولكن ما يدهشني فيه هو مقدرته الكبيرة على إدخال القارئ في الخيال أثناء وصفه الأمكنة والأشخاص وكل ما هو محيط في أجواء الرواية، غابرييل غارسيا ماركيز هو أحد كبار الأدباء العالميين الذين لا أتردد في القراءة لهم أبداً .. ولا أندم!