اقتصاد الواقع أم اقتصاد التمنيات .. أيهما نختار؟
عندما يصرح مسؤول في وزن محافظ مؤسسة النقد أن التضخم سينخفض مع بداية النصف الثاني إلى معدلات أقل من تلك التي يعانيها المستهلكون هذه الأيام أفترض أن معاليه ينطلق من معطيات حقيقية واقعية لا افتراضات أو انطباعات لا تستند إلى أدلة أو قرائن تسندها مثل قوله إن التضخم سينخفض بسبب التأثير الإيجابي لحزمة الإجراءات الحكومية التي اعتمدت لمكافحته. فهذا القول يدعوني إلى التوقف عنده لأسباب كثيرة, لعل أولها أن الإجراءات التي أعلن عنها تنقسم إلى ثلاثة أنواع الأول يتعلق بالدعم المباشر لدخول الموظفين ومستحقي معاشات التقاعد والضمان الاجتماعي, وهذه لا علاقة لها من بعيد أو قريب بمعدل التضخم ولن تخفض من معدلاته الحالية بل إنها تؤثر في رفعه حسب حجمها, وأما الغاية من إقرارها فهي مساعدة الأفراد على مواجهة ارتفاع الأسعار ورفع القوة الشرائية لدخولهم الثابتة وليس خفض التضخم.
النوع الثاني من الإجراءات تتعلق بالتسريع ببعض الأنظمة مثل نظام الرهن العقاري وتأسيس هيئة للإسكان وجمعية لحماية المستهلك وغيرها, وهي إجراءات تنظيمية لن تؤدي في المديين القريب والمتوسط إلى خفض التضخم بل ستساعد الأفراد على الحصول على حقوق إضافية تكفل لهم المسكن المناسب والحماية من جشع التجار وغير ذلك, أي أنها لن تؤثر كذلك في معدلات التضخم المرتفعة.
النوع الثالث والأخير يتعلق بدعم بعض السلع مثل الأرز وحليب الأطفال والشعير, وهي إجراءات لم تتم حتى اليوم رغم مضي عدة أشهر على صدورها, ومع ذلك لن تؤثر في التضخم بخفضه كما يأمل معالي محافظ مؤسسة النقد لكنها ستحتوي إلى حد ما الشكاوى وحالة الضيق التي يمر بها الأفراد, لأن تلك السلع لا تؤثر إلا بقدر بسيط جدا في مؤشر الأسعار.
السبب الثاني الذي جعلني أتوقف عند تصريح معاليه أن ذلك التصريح ترافق مع توقعات لخبير اقتصادي مشهود له بالكفاءة وهو الدكتور عبد العزيز الدخيل قال فيها إن التضخم سيرتفع إلى معدلات أعلى, وترافق أيضا مع توقعات لبيت خبرة عالمي قال إن التضخم ربما يصل إلى الخانتين, أي أنه سيتجاوز الـ 10 في المائة, ولا أعتقد أن أولئك ينطلقون من اجتهادات وانطباعات شخصية بل يعتمدون على مؤشرات ومعطيات ذات قيمة.
وقبل أن أتطرق للأسباب التي تدعوني للأخذ برأي الفريق الذي يتوقع ارتفاع التضخم لا بد أن أشير إلى أن التعامل مع القضايا الاقتصادية مثل التضخم وأسعار الصرف وأسعار الفائدة واحتياطيات الدولة وجميع ما له علاقة بالسياسة النقدية لا ينبغي أن يكون بالتمنيات لأنها لا تفيد من جهة, وتتسبب في خسائر باهظة للاقتصاد الوطني من جهة أخرى، بل ينبغي أن تكون جميع الإجراءات التي تتخذ مبنية على دراسات مهنية حقيقية, وأن يتم التعامل مع المعطيات الراهنة كما هي لا كما نتمنى أن تكون، ولعلي أكون أكثر وضوحا وصراحة فأقول إن التضخم أمر واقع وأسبابه معروفة أهمها انخفاض سعر صرف الريال أمام العملات العالمية, وكذلك التضخم العالمي بسبب ارتفاع أسعار البترول وارتفاع الطلب على بعض السلع الاستهلاكية مثل الأرز, وارتفاع أسعار الشحن والـتأمين، وهذا يعني أن معظم أسباب التضخم خارجية لا علاقة لها بحزمة الإجراءات الحكومية التي أقرت وهو ما ينبغي أن يتم التعامل معه بطريقة محترفة تأخذ في الحسبان مصالح المملكة الاقتصادية.
أما الأسباب التي تجعلني أميل إلى أن التضخم سيرتفع خلال النصف الثاني خلافا لتوقعات معالي محافظ مؤسسة النقد فهي تفاقم أزمة الرهن العقاري في الولايات المتحدة, والتوقعات بأن تعلن البنوك عن خسائر إضافية وفقد الدولار المزيد من قيمته خلال الأسابيع الماضية, وارتفاع أسعار البترول نتيجة لذلك, وهو ما سيزيد من أسعار السلع في الأسواق العالمية وحول الأسباب الداخلية, فإن أهم أسباب التضخم ارتفاع تكاليف البناء والدليل على ذلك ارتفاع أسعار الحديد بنحو 100 في المائة خلال السنتين الماضيتين وارتفاع الخرسانة الجاهزة والبلوك والأسمنت الذي فقد من الأسواق هذه الأيام وارتفاع أسعار الأراضي وكثير من المنتجات ذات المنشأ المحلي بسبب استغلال التجار والعمالة الوافدة الأوضاع التي يمر بها الاقتصاد, وضعف الرقابة, وعدم قدرة الأجهزة الرقابية على القيام بعملها في ضبط الأسعار.