في ذكرى غزو العراق: كوارث التعريف الأمريكي للإرهاب

[email protected]

بعد سبع سنوات على بدء الحرب الأمريكية ضد "الإرهاب" وخمس سنوات على غزو واشنطن العراق تحت غطاء هذه الحرب، لا يزال التعريف الذي تتبناه الإدارة الأمريكية للإرهاب كما هو محتفظاً بالتناقضات والعيوب الهيكلية نفسها التي بدأ بها قبل تلك السنوات. فالإرهاب الذي تتصور واشنطن أنها تحاربه وتسعى لاجتثاثه من العالم يتم تعريفه لديها بطريقتين متناقضتين تماماً، كلتاهما لا تعبر عن حقيقة مضمونه.
فمن ناحية، يضيق التعريف لكي يكاد ينحصر في بعض من الجماعات والمنظمات والدول والأفكار المنتمية إلى العالمين الإسلامي والعربي دون أن يمتد خارجها إلى أي إطار جغرافي أو ثقافي أو ديني آخر، بما يعمق شعوراً شائعاً – وحقيقياً – بين الشعوب العربية والإسلامية بأن الإرهاب لا يعني في التعريف الأمريكي سوى العربي والإسلامي. وبينما يضيق التعريف الأمريكي إلى تلك الدرجة المخلة والمتصادمة مع حقائق العالم منذ الحرب العالمية الثانية على الأقل، إذا بمعنى الإرهاب يتسع ضمنه ليشمل كل الظواهر التي تتصادم مع المصالح الأمريكية المباشرة وغير المباشرة أياً كانت طبيعتها الحقيقية التي لا ترتبط بأية صلة مع مفهوم الإرهاب البغيض. وهكذا يدرج التعريف الأمريكي للإرهاب منظمات عربية مقاومة للاحتلال سواء في فلسطين أو لبنان هي بطبيعتها منظمات مقاومة وطنية بالرغم من أيديولوجيتها الإسلامية، كما يدرج دولاً ترفض السياسات الأمريكية الخارجية في عديد من دول العالم وبخاصة في الشرق الأوسط والخليج. كذلك يتسع التعريف الأمريكي للإرهاب ضمن الإطار الإسلامي والعربي ليشمل عشرات من المنظمات والجمعيات الأهلية الإسلامية ذات الطابع الإنساني والإغاثي باعتبارها داعمة للإرهاب مالياً واقتصادياً وبالتالي هي جزء منه، على الرغم من غياب أي أدلة حقيقية على ذلك الاتهام، بل ووجود تناقضات عميقة ومعروفة بين الأغلبية الساحقة من تلك الجمعيات وبين الجماعات الجهادية العنيفة التي تمارس الإرهاب.
وفي الحالتين، أي عندما يضيق تعريف الإرهاب الأمريكي أو يتسع، فهو يفتقد أي معايير ثابتة تحدد مضمونه ومن ثم الموقف منه وطريقة التعامل معه. فهنا يصبح ما حدث في واشنطن ونيويورك في الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 من اعتداء ضد المدنيين "إرهاباً" بينما تعد كل اعتداءات القوات الأمريكية والحليفة ضد المدنيين في العراق وأفغانستان "حربا" مشروعة ضد الإرهاب. وفي السياق نفسه لا توصف كل أعمال الاحتلال والقتل والاغتيال والاعتقال التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي ضد الفلسطينيين "المدنيين" في أقصى إدانة أمريكية لها سوى بأنها "استخدام مفرط للقوة"، بينما لا تجد واشنطن غير مفهوم "الإرهاب" لكي تصف به أي فعل للمقاومة من جانب هؤلاء الفلسطينيين.
وبعيداً عن ذلك الاضطراب والتحيز في التعريف الأمريكي للإرهاب، فإن الأكثر خطورة فيه هو الطابع الشخصي الفردي للتعريف وغياب كل الأبعاد البنائية والتاريخية والسياسية لظاهرة الإرهاب المعقدة. فالإرهاب في الفهم الأمريكي يبدو وكأنه ظاهرة مرتبطة بأشخاص "منحرفين" ابتدعوا تلك الظاهرة البغيضة لتحقيق أهداف "إجرامية" لهم. والجماعات والمنظمات وحتى الدول الموصوفة بالإرهابية حسب التعريف الأمريكي لا تبتعد كثيراً عن التشكيلات العصابية الإجرامية التي تزخر بها كل المجتمعات البشرية منذ بدء الخليقة. ويبدو واضحاً هنا مدى تأثر التعريف الأمريكي للإرهاب بثقافة الغرب الأمريكي الذي حفل بمثل تلك الجماعات والمنظمات الإجرامية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين والتي تشكل معظمها حول شخصيات إجرامية معروفة كان القضاء عليها كفيلاً بالقضاء على تلك الجماعات والمنظمات. وقد بدا ذلك التأثر بالتاريخ الأمريكي واضحاً في التعريف الأمريكي للإرهاب بل في وسائل مقاومته التي بدا بعضها تكراراً لوسائل مقاومة الجريمة المنظمة في ذلك الغرب الأمريكي بالتركيز على الأشخاص الذين تعلق صورهم والمكافآت المرصودة للقبض عليهم في الأماكن العامة باعتبارهم "مطلوبين" للعدالة.
إن التغاضي عن حقيقة ظاهرة الإرهاب باعتبارها أوسع بكثير من مجرد محض ظاهرة إجرامية ينطبق عليها التحليل والتفسير الجنائي فقط يعد العقبة الرئيسية أمام "نهاية" الإرهاب و"الانتصار" النهائي عليه كما تطمح الحملة الأمريكية. فبالرغم من وجود بعض الخصائص المشتركة بين ظاهرة الإرهاب وبين الظواهر الجنائية والسياسية العنيفة الأخرى، فإن ثمة خصائص متميزة للظاهرة الأولى يصعب من دون التطرق إليها تحليلها أو تفسير سلوكها وتطوراتها ومن ثم مواجهتها مواجهة حاسمة. وفي مقدمة تلك الخصائص المتميزة حقيقة أن اللجوء إلى الإرهاب في معظم الأحيان يعد حصيلة لمجموعات معقدة من الأسباب والتغيرات التاريخية والسياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي يمكن لبعضها أن يؤدي أيضاً إلى الجريمة، ولكن اجتماعها معاً هو فقط الذي يفسر الإرهاب وإن كان لا يبرره. والاعتراف بتلك الحقيقة والطبيعة المعقدة والبنائية غير الشخصية لظاهرة الإرهاب لا بد أن يفضي إلى تعريف مختلف له عن التعريف الأمريكي المضطرب والمنحاز وأكثر واقعية منه، بما قد يؤدي بدوره إلى وضع سبل أخرى للتعامل معه من أجل إنهائه واجتثاث جذوره الحقيقية.
إلا أنه يبدو واضحاً أن الوقت قد فات لأن تغيير الإدارة الأمريكية الحالية من تعريفها للإرهاب وتصوراتها للطريق الأمثل للقضاء عليه، فهي قد غرقت وأغرقت العالم معها في أزمات وكوارث كبرى نتيجة لتعريفها الغامض الضيق الواسع وسياساتها التي قامت عليه خلال السنوات التي مرت منذ هجمات أيلول (سبتمبر)، ولم يبق من أمل سوى أن تأتي إدارة جديدة بعد الانتخابات الرئاسية لكي تتبنى تعريفاً له أكثر دقة وواقعية ومعه سياسات أخرى أكثر عقلانية من تلك التي دفع العالم كله أثماناً غالية لها خلال السنوات الماضية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي