لماذا تركيا؟
لما حصلت كارثة 11 أيلول (سبتمبر) وسقط برجا مركز التجارة العالمي في نيويورك، كنت مصادفة في إستانبول، وكان رد فعل الشارع التركي بتركيبته وعواطفه لا تختلف كثيرا عن رد فعل الشارع العربي، وهو رد الفعل نفسه الذي لمسته قبل الحدث بأيام لما تزايدت وتيرة الأحداث في الأراضي الفلسطينية في أوائل أيلول (سبتمبر) 2001، رغم أن السياح الإسرائيليين كانوا يجوبون المدن التركية بلا أي مشكلات.
ولكن هذا لا يعني أن تركيا جزء من العالم العربي، أو أن الأتراك قريبون من العرب، بل إن للأتراك تجربتهم المدنية الخاصة، وهي تجربة مدهشة عموما، مدهشة على المستوى السياسي, حيث استطاعت تركيا أن تنعتق من "الأتاتوركية" إلى الديمقراطية بتدرج لافت للانتباه، ومدهشة على المستوى الاقتصادي لأنها جعلت من تركيا دولة صناعية وتجارية مميزة، ومدهشة على المستوى الثقافي، حيث ينشر ـ حسب تقرير الأمم المتحدة ـ من الكتب في تركيا ما لا ينشر في العالم العربي كله، كما أن تجربة "الأتراك الإسلاميين" الذين استطاعوا تحقيق نصر انتخابي ساحق وكسب عاطفة الجماهير بعد ثمانية عقود من الأتاتوركية وبناء رؤية سياسية واجتماعية معتدلة جدا, أمر جدير بالدراسة والفهم.
هناك أسباب كثيرة تدفعك للاستنتاج أن تركيا ربما تكون الحليف الأهم والأفضل استراتيجيا للعالم العربي، ومن هذه الأسباب التجربة التركية المتميزة، وبسبب الرابط الثقافي والديني والتاريخي بين تركيا والعالم العربي، ولأن تركيا هي الجار الشمالي الأكبر للعالم العربي، ولأن تركيا تقع على حافة أوروبا وقد تصبح جزءا من الاتحاد الأوروبي، كما أنها بوابة آسيا الوسطى، ولأن تركيا تملك رؤية استراتيجية بعيدة المدى، ولأن العرب يحتاجون إلى الحلفاء في زمن يعانون كونهم في فجوة وجفاء مع كثير من التحالفات الدولية، وأخيرا لأن الحلفاء الآخرين في العالم الإسلامي لا يملكون كل هذه المميزات.
لهذا كله سعدت لما زار خادم الحرمين الشريفين تركيا مرتين في عامين متتاليين، ولما تحرك أربكان نحو العالم العربي (ولو بشكل محدود)، ولما تحرك أردوغان كذلك نحو العالم العربي، وأخيرا لما اختار مهرجان الجنادرية الأخير تركيا كأول ضيفة شرف للمهرجان.
اطلعت على ورقة العمل التي ألقاها عبد الله بن هاجس الشمري في المهرجان عن العلاقات الثقافية بين السعودية وتركيا، التي جاءت من تجربة طويلة في السفارة السعودية في تركيا وجهود مكثفة خلال تلك الفترة لدعم العلاقات السعودية ـ التركية. تضمنت الورقة عددا من الأفكار والتوصيات المهمة لدعم التواصل الثقافي بين السعودية وتركيا سواء كان ذلك على مستوى الجامعات أو على المستوى النخبوي أو من خلال تأسيس مركز دراسات سعودي ـ تركي متخصص, أو من خلال الأنشطة الثقافية التي تهدف كلها في النهاية لإذابة جليد الجمود بين العرب (الذين تقف المملكة على رأس حربة تحالفاتهم الاستراتيجية) وبين الأتراك.
منذ أتاتورك سيطرت القطيعة مع العرب على الأتراك، الذين رأوا العالم العربي جزءا من تاريخ يريدون التخلص منه، وكان اهتمامهم الأساسي بأن يصبحوا جزءا من أوروبا مهما كان الثمن، إلا أن الزمن أثبت أن أتاتورك مخطئ مرتين، مخطئ لأن أوروبا لم تنس التراث الثقافي لتركيا، ولأن الأتراك ما زالوا بعد ثمانية عقود من الزمن يحنون إلى تاريخهم القديم.
العرب من جهتهم لم ينسوا للأتراك أخطاءهم وممارساتهم الاستعمارية قبل قرن من الزمن، كما لم يغفروا لتركيا تكبرها على العالم العربي باسم "القومية التركية" والعلمانية، وإقبالها على العلاقات مع إسرائيل، وكان الأمر يتطلب جهودا كبيرة حتى يعود العرب إلى النظر بعين إيجابية لتركيا، وكان أول من قاد هذا التحرك الإيجابي المملكة العربية السعودية، وأسهم في دعم ذلك كله شعور الأتراك بعزلتهم في العلاقة مع أوروبا، ورغبة العرب في بناء تحالفات جديدة في عالم ما بعد 11 أيلول (سبتمبر).
إذا ذاب الجليد من خلال الأنشطة الثقافية، ومن خلال الجهود الدبلوماسية، فهذا ربما يفتح الباب للعلاقات الاقتصادية الاستراتيجية والتحالفات السياسية والعسكرية, التي تمثل في مجموعها, الثمرة الحقيقية لمثل هذا الحوار التركي- العربي.
ربما كانت الجنادرية نقطة مضيئة في مسيرة ذلك الحوار.