أزمة الكهرباء.. ومديرو المدارس

[email protected]

تبين في المقالات الماضية أنه سينتج عن النمو السكاني والنمو الاقتصادي والهجرة من الريف إلى المدن في العالم العربي بشكل عام، ودول الخليج بشكل خاص، عجز كبير في إمدادات الكهرباء. كما تبين أنه إذا لم يتم اتخاذ خطوات جادة لحل هذه الأزمة فإنها قد تتحول إلى كارثة اقتصادية واجتماعية. وتم طرح فكرة للنقاش مفادها أن الظروف السياسية والاقتصادية والفنية تمنع بعض الدول العربية من بناء مفاعلات نووية لتوليد الكهرباء، بينما تسمح لدول أخرى ببنائها. وتم اقتراح مشروع تعاون عربي لبناء محطات نووية في مصر وتصدير الكهرباء إلى بقية الدول العربية عن طريق مشاريع الربط الكهربائي التي ستتم بالكامل خلال بضع سنوات مقبلة. وتم التركيز على نقطة مفادها أن أكثر مشاريع التعاون العربي نجاحاً هي المشاريع التي ركزت على المستهلك العربي، الأمر الذي يعزز من فرص نجاح هذا المشروع "النووي العربي".

النووي الخليجي
ولكن لنفرض أن الدول الخليجية قررت المضي قدماً في بناء محطات نووية فيها بالتعاون مع الدول الصناعية الكبرى، ولنفرض أنها تغلبت على مشكلة المياه التي تحتاج إليها هذه المفاعلات لعملياتها، بما في ذلك التبريد، فإن المشكلة الأساسية الباقية هي ندرة الخبرات والعمالة الوطنية في هذا المجال. إن آخر شيء يمكن أن تقوم به حكومة ما هي ترك مفاعلاتها النووية للموارد البشرية الأجنبية التي تعمل بشكل مؤقت في هذه البلاد، أو الموارد البشرية الوطنية غير المؤهلة. وإذا نظرنا إلى المفاعلات النووية الأمريكية نجد أن كثيراً من الأمريكيين أنفسهم ممنوعون من العمل في محطات الكهرباء النووية، ولا يمكن لأحد أن يعمل فيها إلا بعد أن تتم الموافقة عليه من جهاز المباحث الفيدرالي، بعد تحقيقات سرية قد تستغرق عامين وحصول الشخص على تقرير أمني يؤهله للعمل في هذه الأماكن. كما تطلب المباحث من العاملين في أماكن حساسة تقديم تقارير منتظمة عن حياتهم الخاصة وأسفارهم وأسماء ووصف كل من التقوا بهم، وما جرى بينهم. خلاصة الأمر أنه حتى الدول الداعية للحرية الاقتصادية والتجارية والتي بني اقتصادها على المهاجرين تصر على أن تدار مفاعلاتها النووية بموارد بشرية "وطنية جداً".

دور الجامعات و المدارس
إن مشكلة العجز في إمدادات الطاقة مشكلة كبيرة لن تحل بسرعة أو بسهولة لأن المشكلة ليست في توافر رؤوس الأموال ونقل التكنولوجيا فقط، وإنما في ندرة المتخصصين والفنيين في مجال الطاقة بشكل عام، والطاقة النووية بشكل خاص. لهذا فإن حل مشكلة العجز في إمدادات الطاقة يقع على عاتق الجامعات المحلية التي يجب أن تبني الموارد البشرية المتخصصة والماهرة من جهة، والحلول الجذرية لمشاكل الطاقة و البيئة من جهة أخرى. الوصول لهذه الحلول يتطلب باحثين وفنيين ومختبرات على مستويات عالمية تمكّن الدول العربية من استخدام الطاقة النووية وتطويرها. بعبارة أخرى، بناء خبرات لنقل التقنية لا يكفي، وإنما نريد الخبرات التي تطورها وتصدر التقنية المطورة للعالم. هذا يعني أن للمعادلة شقين، شق دولي يتمثل في نقل التقنية من الغرب إلى دول الخليج، وشق محلي يتمثل في تأهيل وتدريب الكوادر المحلية لإدارة وتطبيق هذه التقنية وتطويرها. هذه التوجهات، نجدها في جامعة الملك عبد الله للعلوم و التكنولوجيا في ثول، وفي جامعة الملك سعود في الرياض، وإن كانت تتعلق بالتقنية بشكل عام، وليس تحديدا بتقنية الطاقة النووية، فكلتا الجامعتين تهدفان لنقل التكنولوجيا واستقطاب كبار العلماء والباحثين من شتى أنحاء العالم، وكلتا الجامعتين تهدفان لبناء خبرات وطنية متميزة. وكلتا الجامعتين تركزان في رؤاهما الجديدة على الرياضيات والفيزياء والكيمياء وعلوم الأحياء. إلا أن الحقيقة المُرّة أن أقسام ودراسات الطاقة النووية ما زالت محدودة جداً في الجامعات العربية.
و لكن للأسف يبدو أن مشكلتنا أكبر من ذلك لأن الجامعات، حتى لو كانت لديها رؤىً جديدة وموارد مالية، وحتى لو استطاعت استقطاب أشهر الخبراء العالميين في هذا المجال، فإنها لا تستطيع تطوير هذه الكوادر الوطنية إذا كان خريجو المدارس الثانوية ليسوا على المستوى المطلوب. إذا، في الوقت الذي نركز فيه على دور الجامعات العلمي والبحثي، لا بد أن نؤكد على دور المدارس في إعداد الطلاب للنجاح في هذه الجامعات، خاصة في مجالات الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء. فلن تستطيع الجامعات بناء القصور العالية إلا إذا كانت أساسات البناء تمكنها من ذلك. وهذه الأساسات يتم بناؤها في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية. إن آخر ما تريد إدارات هذه الجامعات رؤيته هو قصوراً مهدمة بسبب ضعف الأساسات التي بنيت عليها.
إن خطر المفاعلات النووية لا يكمن في احتمال فشلها فنياً، أو احتمال ضرب إسرائيل لها، وإنما يكمن في تسليمها بالكامل لموارد بشرية غير وطنية، أو تسليمها، ولو جزئياً، لخبرات وطنية غير مؤهلة. وهنا علينا أن نتذكر أن كوارث العالم النووية جاءت من أخطاء إنسانية، سواء بسبب الإهمال، أو عدم المعرفة، أو بسب القرار الخاطئ. لهذا يمكن القول إن سبب أزمات الطاقة في المستقبل في الدول العربية بشكل عام وفي الدول الخليجية بشكل خاص هو مديرو المدارس! نعم... مديرو المدارس، وليس أرباب العمل، أصحاب المفاعلات! مع خالص المحبة والتقدير للدكتور غازي القصيبي وزير العمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي