قطرة مياه في شجرة تبلْدي
دفي غرب السودان، وعلى بعد مئات الكيلو مترات من نهر النيل وروافده تنبت شجرة معروفة في صحاري السفانا تسمى شجرة التبلْدي، وهي شجرة معمرة عملاقة قليلة الأوراق غليظة الساق يصل عرض ساقها إلى ما يزيد على مترين يحفظ فيها الأهالي في القرى والهجر في هذه المناطق النائية ما يتم جمعه من مياه الأمطار في ساق (لب) الشجرة لاستخدامها في فترات الجفاف وانقطاع هطول الأمطار. ولا يدري هؤلاء الأهالي البسطاء المتعايشين مع هذه البيئة الصحراوية منذ مئات السنين أنهم بذلك يطبقون مجموعة من أهم مبادئ الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية بالتعامل مع المياه.
المبدأ الأول: الحفاظ على "المياه من أجل الحياة" الذي تم إقراره في اجتماع الأمم المتحدة في كانون الثاني (يناير) عام 2003م كإعلان دولي ملزم الذي لاقى اهتماما متزايدا على المستويين الإقليمي والدولي، لما له من مدلول اجتماعي/ اقتصادي مؤثر في المجتمع الدولي.
المبدأ الثاني: تطبيق مبدأ "اللامركزية في الحصول على المياه "ومشاركة الجميع في الانتفاع بها وعدم إهدارها الذي يعد أبرز مبادئ الممارسات الأخلاقية في التعامل مع المياه التي تضمنها "كود (نظام) أخلاقيات المياه" الصادر عن اليونسكو من عشر سنوات مضت.
المبدأ الثالث: "الإدارة المتكاملة للمياه"، وقد أقر هذا المبدأ مع بداية الألفية الثالثة من قبل المجلس العالمي للمياه بغرض تحقيق إدارة الموارد وإدارة الطلب عليها بطريقة متوازنة وبما يضمن استدامة المياه لأطول فترة ممكنة، الذي يؤكد أن القضية ليست في محدودية توافر المياه (حتى لو كانت نقطة مياه) بل في حسن إدارتها لمصلحة الجميعٍ.
وللأسف فإن تفعيل تلك المبادئ الثلاثة على المستوى العربي – لضمان الحفاظ على قطرة المياه – لا يتناسب مع ما لدى الدول العربية من إمكانات مادية وموروث ثقافي وتاريخي، ويظهر ذلك جليا في النقاط التالية:
النقطة الأولى: يتوافر في المنطقة العربية العديد من الموارد المائية المتجددة سنويا على هيئة أنهار دائمة السريان كنهر النيل، ونهري دجلة والفرات ونهر الأردن، إضافة إلى مجموعة نهيرات ووديان في أحواض تصريف مائية سطحية تتلقى المياه من الأمطار الهاطلة على أرض المنطقة التي ترواح بين 120 مليار متر مكعب و180 مليار متر مكعب سنويا، ناهيك عن وجود خمسة أحواض جوفية رئيسة ذات تغذية محدودة تضم حوض مياه الحجر الرملي النوبي في مصر والسودان، وحوض الأبراج في صحاري دول شمالي إفريقيا العربية، وحوض بادية الشام في صحاري سورية والعراق وحوض فزان الرملي جنوبي ليبيا والجزائر التي تعتقد أنها تحتوي على مخزون احتياطي مؤكد يتجاوز 13 تريليون متر مكعب، ومع ذلك فإن الظاهرة الغالبة في البلدان العربية استغلال هذه الموارد بطريقة غير علمية وعدم إقامة مشاريع مائية مجدية مما يؤدي إلى (إهدار) في استغلالها في أغراض زراعية تقليدية وعدم النظر بجدية إلى قيمتها الاقتصادية المضافة أو (إهمال) في معاملتها كمصدر حيوي يعرضها للتلوث كيميائيا وبكترولوجيا.
النقطة الثانية: ما زال هناك تدن واضح في تفاعل الجهات المسؤولة مع أخلاقيات استخدام المياه كمصدر للحياة ولا توجد تشريعات ملزمة، إضافة إلى نقص حصيلة المكون الأخلاقي وثقافة الالتزام بالمبادئ الأخلاقية للمواطن العربي، والنتيجة وجود كثير من الممارسات غير الأخلاقية في التعامل مع المياه يتثمل أساسا في اللامبالاه في تطبيق عدالة توزيع خدمات المياه في المدن والقرى وعدم وضع أولويات واضحة لاستخدامها للأغراض المختلفة، وعدم التوازن بين القطاعات المستهلكة، إضافة إلى عدم التقيد بالمساواة والكرامة الإنسانية في حل النزاعات المائية محليا وإقليميا.
النقطة الثالثة: محدودية تنمية الموارد المائية غير التقليدية التي تضم مياه الصرف الصحي المعالجة ومياه الصرف الزراعي المعاد استخدامها والمياه المحلاة من مياه البحر المالحة. وتشير الأرقام الواردة في هذا الشأن على سبيل المثال – أن نسبة المياه المعالجة من الصرف الصحي لا تتجاوز (10 في المائة) فقط على المستوى العربي من واقع 25 مليار متر مكعب تستخدم للأغراض البلدية في وقت تصل هذه النسبة إلى أكثر من (40 في المائة) في ألمانيا واليابان كمثال، أما بالنسبة لمياه الصرف الزراعي المعاد استخدامها فهي مقصورة على مصر بصورة خاصة ولم يتم تعميمها حتى في البلدان العربية التي تجري فيها أنهار دائمة السريان مع الإحاطة بأن هذه المياه يتم خلطها مع مياه الري ولا تعالج. وتقف المملكة العربية السعودية على رأس الدول العربية في مجال الانتفاع من المياه المحلاة من مياه البحر المالحة وتستأثر بمفردها بأكثر من (80 في المائة) من إجمالي تنمية المورد على المستوى العربي (نحو مليار متر مكعب) فيما لم تسجل محاولات جادة للدخول في عالم تحلية المياه في باقي الدول العربية الأخرى.
النقطة الرابعة: يوجد في الوضع الراهن ثمة عجز واضح في الميزان المائي لجميع البلدان العربية – دون استثناء – حيت يتجاوز الطلب على المياه لتلبية الاحتياجات المختلفة الموارد المائية المتاحة، مما يحول دون تحقيق إدارة متكاملة للمياه بصورة كاملة، ونتيجة لذلك تتجه الدول العربية – الغنية منها والفقيرة – إلى تغطية هذا العجز من خلال استيراد المياه على هيئة حبوب أو لحوم أو خلافه، أو ما يعبر عنه باستيراد "المياه الافتراضية". وتشير أحدث الإصدارات في هذا الشأن إلى أن إجمالي المياه الافتراضية لمجموعة البلدان العربية في الوضع الراهن تزيد على 80 مليار متر مكعب، تستأثر منها مصر بمفردها بنحو 23 مليار متر مكعب (35 في المائة من إجمالي المياه المتاحة فيها). تليها في الترتيب المملكة العربية السعودية التي تستورد مياهاً افتراضية في حدود 12 مليار متر مكعب (50 في المائة) من إجمالي المياه المتاحة فيها) ثم الجزائر التي تستورد (11 مليار متر مكعب مياهاً افتراضية (80 في المائة من إجمالي المياه المتاحة) والمغرب في حدود سبعة مليارات متر مكعب مياهاً افتراضية (25 في المائة من إجمالي المياه المتاحة) والأردن في المرتبة الخامسة باستيراد (5) مليارات متر مكعب (310 في المائة من إجمالي المياه المتاحة) .. وتتفاوت هذه النسبة في باقي الدول العربية الأخرى ما بين (100 في المائة) و(400 في المائة) من إجمالي المياه المتاحة.
وخلاصة القول: إن الأهالي البسطاء في غرب السودان لهم رؤية استراتيجية واضحة في التعامل مع قطرة المياه بحفظها في لب شجرة التبلْدي، وهو درس مستفاد لجميع الدول العربية يجب أن ينظر إليه بجدية ويؤكد أن قطرة المياه ستظل دوما في الحياة.