"شوارع ذكية" و"صفائح منسية"
أتذكر محاولاتي الأولى للكتابة الصحافية حيث كان حلمي أن ينشر مقال أو تحليل أو قراءة. وأتذكر الرغبة في أن أوصف بكاتب أو حتى محرر في جريدة. اليوم وكل يوم يمر أجد أن الحمل يزداد والثقل غير متوازن ومرهق في الوقت ذاته. أمانة الكلمة حمل ثقيل وتحتاج إلى عصبة من المؤمنين بتحقيق العدالة حتى يمكن إكمال المسيرة. الخلاصة وهي ليست اكتشاف أن مسؤولية الرأي هي أكبر حمل يمكن أن يكون على ظهر إنسان ما وبالذات عندما تتطلب الأمور ذلك. فأحمد الله أننا في بلد كفل حرية الرأي وحرية الكلمة الملتزمة.
الأيام الأخيرة مرت وتمر بمرارة شديدة أشبه بوطأة برد "الشمال" وبمثل مرارة قضايانا الكثيرة والمعقدة التي تراوح مكانها منذ سنين، والأمل معقود بالله وبالمخلصين من أبناء الأمة في إنجاز الكثير من الطموحات. لا أعلم هل التحديات أصبحت عظيمة وقاصمة للظهور أم أن بلوغ مرحلة من العمر يجعل الإنسان يشعر بالتحديات وعظمها بطريقة جديدة. كنت أقرأ كتاب "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" للعلامة الشيخ محمد الغزالي، الذي كتبه في عام 1947م (أي قبل أكثر من 60 عاما)، وملخص الكتاب بالنسبة لي أن مشاكلنا هي هي، ولا تزال تعالج بالأسلوب نفسه وبالتالي تأتي النتائج متشابهة ولكن بمسميات جديدة، بينما هناك حلول عظيمة يمكن إذا ما خلصت النيات أن تذيب الصخور وتبني المستحيل دون تسويف وإعادة للأسطوانات المشروخة! الشاهد أن هناك فجوة لم نستطع ردمها حتى الآن بين رغبة ولاة الأمر في تحقيق التنمية والمسؤولين الذين يجدون ألف عذر وعذر لعدم تحقيق أي إنجاز أو إخراج الإنجازات بشكل مشوه لا يخدم الهدف الأسمى الذي من أجله اتخذ القرار الأعلى.
آخر المستجدات التي يعتصر قلب الإنسان ألما لمشاهدتها والقراءة عنها ما حدث خلال موجة البرد الشديدة التي مرت على المملكة وشمالها خصوصا عندما كان هناك حالات وفاة من البرد ومن قلة ذات اليد في توفير الحد الأدنى من مستلزمات الحياة الكريمة لبعض الأسر وأبنائها، فقد قال الخليفة الحازم عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو كان الفقر رجلا لقتلة). ففي منطقة عرعر على سبيل المثال ماتت طفلة في بيوت الصفيح، وفي منطقة الجوف ماتت طفلة في طابور الصباح المدرسي المقدس عند بعض العقول حتى لو مات الأطفال، فهو واجب والواجب لا يصح إلا به! أيضا أحد عمال المزارع في منطقة الجوف توفي وكل تلك الحالات بسبب البرد الشديد وقلة التدفئة. ولم يتردد ملك الإنسانية في القفز فوق "البيروقراطية" القاتلة والأمر بشكل عاجل بتوفير المؤن والإمدادات اللازمة لتوزيعها على المحتاجين في تلك المناطق ومناطق أخرى من المملكة. وكذلك أمر حفظة الله بصرف إعانة مالية عاجلة بمبلغ 645 مليون ريال للمشتركين في الضمان الاجتماعي بشكل عاجل. وهو أمر ليس بمستغرب على ملك الإنسانية.
لكن السؤال الذي يبرز مثل سطوع شمس الظهيرة في شهر آب (أغسطس) ونحن في كانون الأول (ديسمبر)، ما الذي تفعله الإدارات والوزارات والهيئات وكل مسؤول وضع في منصب؟ ألا يخافون الله؟ ألا يخافون دعاء الناس عليهم؟ ألا يعلمون أنهم رعاة ومسؤولون أمام الله أولا وأمام ولاة أمرهم؟ لماذا لا نرى أثرا للمليارات والمبادرات التي اعتمدتها الدولة في سبيل تنمية جميع مناطق المملكة؟ أسئلة أتركها دون إجابات لأنه ليس لدي إجابات عليها!!!
وقد سبق أن تحدثنا في فترة سابقة وحذرنا من أن الفجوة بين الاقتصادين الكلي والجزئي تتفاقم بسبب طريقة تنفيذ المشاريع ورؤية الإدارات التنفيذية. ففي جريدة الاقتصادية بتاريخ 13/10/1428هـ وتحت عنوان "تفاقم الخلل بين الكلي والجزئي" كتبنا بالحرف" ويزيد من حجم المشكلة وضبابيتها عدم وجود جهاز رسمي أو غير رسمي يقيس بشكل "حقيقي" مستويات المعيشة وتكاليفها الحقيقية والمؤشرات المصاحبة لها، رغم وجود مؤشرات للأسعار وتكاليف المعيشة ولكنها، مع كامل احترامي لوزارة الاقتصاد والتخطيط، لا تعكس الحقيقة ولا بنسبة 50 في المائة من حقيقة الوضع المالي للأفراد والأسر، وليس هناك مبالغة في الموضوع حيث إنها (أي الوزارة) وبتصريح رسمي ألغت الفقر من بلادنا ولله الحمد! وفي كل دول المؤسسات هناك دائما مؤشرات أخرى لا تمثلها الجهات الرسمية تقوم بقياس تكاليف المعيشة والأسعار لها بمصداقية كبيرة بهدف مقارنتها بالرسمي من المؤشرات وكذلك بهدف توجيه الرأي العام وتنبيه الجهات الرسمية للمشكلات الحقيقية التي يعيشها السكان سواء مواطنين أو مقيمين بدلاً من اجتهادات الكتاب والصحافيين. وبسبب عدم وجود مؤشرات تعكس حقيقة الأوضاع المعيشية، حيث يعُتمد على القراءات الرسمية، يتفاقم الخلل يوما بعد يوم بين الكلي والجزئي، وهو في زيادة مستمرة ما دام هناك من لا يرى أن هناك مشكلة وكل الأمور تمام التمام." فهل حاول بعض المسؤولين عن قياس مستويات المعيشة وتكاليفها بشكل مباشر في جميع المناطق؟
كما تحدث غيري منذ سنين عن "تنمية الأطراف" وفوق كل ذلك تحدث ملك الإنسانية خادم الحرمين الشريفين في كلماته عندما زار مناطق الشمال وقال إن الشمال لم يأخذ حقه من التنمية وحان الوقت ليأخذ كل حقوقه. لقد حان الوقت الآن وقبل فوات الأوان للإسراع في مشاريع التنمية لجميع المناطق التي فاتها القطاران الأول والثاني وكلي ثقة بعهد خادم الحرمين الملك عبد الله بألا يفوت تلك المناطق قطارنا الثالث فيما البعض يتحدث عن فقر مدقع وفقر غير مدقع، وكأن المشكلة مصطلحات وليست لقمة عيش!!!