الهرطقة الإدارية!
الهرطقة أيها السيدات والسادة هي ترجمة للكلمة اليونانية "هيرزيس" (hairesis) والصفة منها "هيريتك" (heretik)، ومنها جاءت كلمتا "هرطقة وهرطوقي" وتعني كل ما يتعارض مع الرأي القويم، أو هي كل نكران لحق قويم. وفي الإدارة هي غير المنطقي وغير المقبول في المنظومة الإدارية. تعاني قطاعات الإدارة لدينا هرطقات إدارية وقرارات مرتجلة تجعل الخصيب عقيماً وتجعل ظهور القادة والمديرين من الصف الثاني في المؤسسات صعبا جدًا! فهناك معوقات مثل عدم زرع الثقة في نفوس الصف الثاني، بل وزرع الإحباط والتصغير من الشأن فلا ترتفع لهم هامة ويكونون تابعين غير محددي الموقف والانتماء مقلدين للآخرين! كما تتُبع سياسة (الأقزام المتعمّد) بأن تختار المنظمة الأسوأ والأقل في كل شيء ويتم تنصيبه على الباقين. وهو ما أسميه (بالقرارات الهرطوقية) التي تخدم مصالح البعض ضد الآخر، وتنحدر بالأساليب الإدارية نحو الحضيض!!
ومن الخطوات المبتكرة لتأسيس مكان ديموقراطي للعمل وبناء المؤسسات وقيادتها أن تبنت إحدى الشركات الهندية HCL Technologies إعطاء الحق للعاملين في تقييم أداء مديرهم، والاطلاع على تقييمات رؤسائهم،حيث تقوم الشركة بنشر النتائج على الشبكة الرقمية الداخلية. ولا يمكن عندنا تقييم أداء المديرين الإداريين، لأنهم ربما كانوا من المعصومين!! تصبح مهمة المدير في مثل هذه المنظمات المتطورة، محاولة استرضاء الموظف للإبقاء عليه والاستفادة من خبراته، بينما يبرع مسؤولونا في (تطفيش) الموظفين المنتجين والمتميزين أو من له رأي مخالف حتى لا يسبب تهديداً لكراسيهم ومصالحهم!!
في الهند يا سادة (وفي دول العالم المعرفي) يكسبون ولاء الموظف باجتذابه والمحافظة عليه، سواء بمرونة ساعات العمل أو برواتب دسمة و بدلات وحوافز، بالتأمين الصحي والنوادي الرياضية والمكاتب المجهزة على أحدث طراز!! أما لدينا،ولنتكلم على صعيد القطاعات الحكومية، حيث تظل الإدارة هي الإدارة والأفراد هم الأفراد، لا وجود لفلسفة إدارية مفهومة تقدم الإجابات والحلول الناجعة! لدينا أيها السادة أزمة قيادات وسطى في التعليم والجامعات والصحة والتدريب المهني والتقني والبلديات.... والقطاع الخاص... ولو أكملت لما انتهيت! والسبب أن قيادات الصف الأول تستأثـر باتخاذ القرار ولا تسمح بظهور قيادات جديدة، وهذا (لعَمري) لهو أسّ البـلاء المنظماتي. لا بد من إلزام القيادات الحالية القواّمة على الحاضر والتي تتمتع بالخبرة والحكمة ( تتراوح أعمارها في أغلب منظماتنا الحكومية بين 48-60 سنة )، أن تقوم بتدريب هذه الأجيال وغرس الفرص في طرقاتها، فهي التي ستمسك بزمام الأمور بعد رحيل السابقة بقوة نظـام التقاعد أو إلى الرفيق الأعلى. لا بد من تبني هذه الإدارات لبرامج تدريبية مدروسة تُعد القادة في جميع القطاعات، حيث إن غياب البرامج المتخصصة وغموض الدور والعشوائية يزيد من تفاقم المشكلة. نحن نحتاج إلى ثورة في المفاهيم وإلى استراتيجيات إدارية يعيها العاملون في أي منظمة وليس أن تتبنى الإدارة العليا تغيير مديريها بأناس خارج نطاق الوعي الإداري لتحل مشكلاتها!
إنه لمن الخطأ الاعتماد على الأكاديميين وأساتذة الجامعات لإدارة قطاعات غير قطاعاتهم، لأن الممارسات الفكرية والنظرية شيء والممارسة العملية شيء آخر! ولست أتهم هنا كل الأكاديميين بضيق الأفق أو محدودية الحيل الإدارية!! إنما لم يعد بالإمكان الانتظار لسنوات حتى يتقن هؤلاء أبجديات العمل الإداري بمبدأ التجربة والخطأ فهم يدمرون الحياة المهنية لعباد الله العاملين في هذه المنظمات! والنتيجة نكسات وعرج إداري مزمن. وتلك هي الطامة التي ستوئد الإبداع والتميز، وستنشر مشاعر الغبن وعدم الانتماء للعمل، وستزيد من الشللية والتحزبية ضد أفراد بعينهم، وتهدد كل مشاريع التطوير والإصلاح بالفشل الذريع!!
قادة المستقبل هم أصحاب الهدف الذي يسري في أعماقهم وفهمهم وجهدهم ويسعون لهذا الهدف ظاهرًا وباطناً، وهم قادرون على اتخاذ القرار الحاسم في الوقت المناسب. أما كيف نصنعهم ونربيهم؟ فذلك ما سأحاول الإجابة عليه في المقال القادم.