بعد منتدى الرياض الاقتصادي.. الاستثمار في البنية التحتية أولى
في اليوم الأول من منتدى الرياض الاقتصادي طُرحت ورقة عمل عن تطوير الفوائض المالية للدولة وكيفية توظيفها، وطالبت ورقة العمل بإنشاء شركة استثمارية مملوكة للدولة تقوم بإدارة واستثمار هذه الفوائض المالية من أجل تنميتها لتستفيد منها الأجيال القادمة.
أنا أشاطر القائمون على منتدى الرياض الاقتصادي هذا الحرص على مصلحة هذا البلد الطيب وأهله وأن تستثمر موارده الناضبة (النفط) الاستثمار الأمثل من أجل تقدم ورقي ورفعة شأنه وكذلك أٌكبر فيهم استشعار المسؤولية الملقاة على عاتقنا جميعاً تجاه الأجيال المقبلة، ولكني أختلف معهم في الكيفية التي يجب أن تدار بها الفوائض المالية للدولة وذلك للأسباب التالية:
أولاَ: هناك مثل أمريكي يقول: من لا يتعلم من التاريخ حكم عليه أن يعيده، على الرغم من وجو
د بعض الاستثناءات المبعثرة هنا وهناك والتي لا تتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة فإن الدولة، وقصد بذلك القطاع العام، مستثمر فاشل، ولم يزدهر أي اقتصاد في العالم سواء أكان قديماً أم حديثاً تسيطر عليه الدولة ولنا في تجربة الدول الشمولية عبرة.
ربما يقول البعض إن شركة سابك أنشئت من قبل الدولة وهي اليوم من أكبر الشركات العالمية، أنا لا أختلف معهم على مكانة شركة سابك اليوم، فهي حالة استثنائية على مستوى التجربة السعودية ولكن لو توافرت الإمكانيات والدعم غير المحدود فضلاَ عن الحصول على المواد الخام بأسعار أقل ما يقال عنها إنها تنافسية لأي شركة في العالم مهما كانت لأصبحت هذه الشركة إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس، فإذا ما قورنت "سابك" مع أكبر 500 شركة في الولايات المتحدة من حيث متوسط العائد على الأصول المستثمرة فإن المقارنة ليست في مصلحة "سابك".
ثانياَ: تكوين الشركات الاستثمارية التي تدار بعقلية القطاع الخاص ربما تكون مناسبة بل ضرورة للصناديق العامة مثل صندوق التقاعد والتأمينات الاجتماعية، حيث إن هذا يتلاءم مع أهدافها الأساسية، فالتزامات هذه الصناديق أكبر بكثير من مساهمات المشتركين فيها وبهذا يكون إلزاما عليها أن تستثمر أصولها في مجالات ذات عائد، حيث تكون التزاماتها دائماً أقل من أصولها، فهذه الصناديق وإن كانت حكومية فأهدافها تختلف كلياً عن أهداف الحكومة.
ثالثاً: إذا افترضنا تكوين مثل هذه الشركات السيادية (المملوكة من قبل الدولة) التي ستكون تحت تصرفها موارد مالية في غاية الضخامة فإن هذه الشركات ستبحث عن اقتصادات آمنة (فيها قوانين تحمي الملكية من المصادرة والابتزاز) للاستثمار فيها، حيث إن اقتصادنا ليس لديه القدرة على استيعاب الفوائض المالية الضخمة المتوافرة للدولة، فضلاَََ عن أنه ليس من مصلحة الاقتصاد السعودي أن يسيطر عليه القطاع العام.
الأسواق الآمنة التي تتوافر فيها حماية لرؤوس الأموال المستثمرة هي السوق الأمريكية (الاقتصاد الأكبر في العالم)، السوق اليابانية (ثاني أكبر اقتصاد في العالم)، والسوق الأوروبية المشتركة، إذا استثنينا الاقتصاد الياباني بحكم أنه مرَ بحالات كساد اقتصادي معظم العقدين الأخيرين فإن أكثر من 60 في المائة من الاستثمارات الأجنبية وكذلك الفرص الاستثمارية هي في السوق الأمريكية، وبناء عليه فإنه من المعقول أن نستنتج أن الشركات السيادية (السعودية) لا بد أن توجه جل استثماراتها للسوق الأمريكية، هذا ربما يكون مقبولا قبل أحداث 11 من أيلول (سبتمبر) التي نعرفها جميعا ولكن في عالم ما بعد هذا التاريخ أصبح العالم بأسره يتوجس من كل شيء له صلة بالعرب بوجه عام والسعودية بوجهٍ خاص، ويزداد الأمر سوءا عندما يتعلق الأمر بالحكومات حيث أصبحت مهاجمة العرب ومصالحهم الاقتصادية شيئا مقبولا من الناحية الأخلاقية والاجتماعية (راجع التغطية الإعلامية والهجوم الذي قادة الكونجرس الأمريكي بجناحيه الديمقراطي والجمهوري على شركة موانئ دبي في عام 2006). هذه النظرة لا أتوقع أنها ستتغير في المستقبل المنظور، مما يجعل الشركات السيادية والسعودية على وجه الخصوص عرضة للحملات الإعلامية والسياسية المغرضة، وهذا سيؤدي إلى تضييق الخناق على الاستثمارات السعودية ليس السيادية منها فحسب بل سيطول هذا الاستثمارات الخاصة، وبهذا يكون ضرر الشركات السيادية علينا أكبر بكثير من منافعها المتوقعة.
رابعاً: أعتقد أنه من الأفضل لنا وللأجيال المقبلة أن تستثمر الفوائض المالية في مشاريع البنية التحتية التي تتطلب استثمارات ضخمة مثل التعليم، ونظام المواصلات، وشبكة الاتصالات، والمياه، وغيرها من المشاريع الكبيرة الضرورية لخلق بيئة مناسبة لتنمية اقتصادية مستدامة، فبخلاف الشعور السائد لدى المسؤولين على أقل تقدير فإن بنيتنا التحتية من نظام مواصلات، وتعليم، واتصالات، وقضاء (على سبيل المثال وليس الحصر) هي الأسوأ والأقل كفاءة من بين مثيلاتها في الدول الأكثر ثراءً في العالم، وهذه الأسباب مجتمعة هي من أهم معوقات التنمية الاقتصادية المستدامة في المملكة، فالخدمة التي يمكن أن نقدمها للأجيال المقبلة هي أن نترك لهم اقتصادا مزدهرا وقويا يستمد قوته مما ينتجه الاقتصاد السعودي من سلع وخدمات بدلا من أن نترك مستقبلهم مرهونا بما تجود به الطبيعة عليهم من موارد ناضبة.