اخفضوا لنا جناح المودة من الطيران

[email protected]

أخشى ما أخشاه، أن تصيبنا وفرة الموارد المالية الراهنة بفتور يقلل من حماسنا السابق الذي أبديناه لإصلاح اقتصادنا وتطوير أنظمتنا التجارية، وتوسيع مشاركة القطاع الخاص، وزيادة درجات المنافسة وكسر الاحتكارات اللازمة لفك الاختناقات، التي ما زلنا نعانيها في عدد من قطاعاتنا الحيوية، كقطاعات التعليم، والصحة، والإسكان، وتدريب وتشغيل العاطلين، وكذلك في مجال خدمات النقل الجوي الداخلي. فنكون كم تكالبت عليهم المآسي من كل حدب وصوب (فمن تردى الخدمات، وانتشار البطالة، إلي ضياع المدخرات في انهيار سوق الأسهم، وانخفاض الدخول الحقيقة لعامة الناس بسبب ارتفاع الأسعار) فلا وضع استقر على حال، ولا تحسن طرأ على مآل!
لقد علمتنا التجارب أن وفرة الموارد لا تدوم، وأن الفرص لا تتكرر. والناظر اليوم يرى كيف يفرض علينا معدل نمو السكان العالي تحديات اقتصادية مستمرة، تتطلب إرادات صادقة وعزائم ماضية واستجابات عالية لحاجات الناس والمجتمع التي تتعاظم يوما بعد آخر. ولو كان لتأجيل التصدي لمثل هذه التحديات الجسيمة مبررا من نقص موارد أو ضيق فرص لهان الخطب، لكن تأجيلها لمجرد سوء تقدير إداري هو مما يزيدها تعقيدا، بل ويجعل ثمن إصلاحها فادحا وجسيما.
لقد سئم الناس من رتابة حركة اقتصادنا، وعانوا بما فيه الكفاية، وتحسروا على الفرص العظيمة التي تضيع من بين أيدينا. نحن بحاجة لنحافظ على وتيرة تطوير أنظمتنا وإعادة هيكلة أسواقنا، وزيادة وتيرة إصلاح اقتصادنا ليبدو أكثر رشاقة وأصلب عودا ليساعدنا على فك الاختناقات، ووضع أقدامنا على قواعد صلبة في مضمار التدافع والتنافس الاقتصادي المحلي والعالمي. ومن العجيب أن يطول بنا الزمان للأخذ بهذه الخيارات والحلول الفعالة، على الرغم من أنها مجرد حلول تنظيمية لا تكلف الخزانة العامة أية أعباء مالية إضافية، ولا يتطلب تبنيها سوى قناعة صادقة بفاعلية هذا الأسلوب الإداري والتنظيمي الذي ثبت نجاحه في كل عصر ومصر.
لكن يبدو أنه ما زال يصعب علينا سرعة التعلم، أو يعز علينا الاعتبار من تجاربنا الفاشلة، أو من تجارب غيرنا الناجحة، حتى أصبحنا مادة سائغة تلوكها الألسن، في المحافل الاقتصادية الإقليمية والدولية، كنموذج للمجتمع الممعن في هدر الفرص والمتلذذ بتأخير اتخاذ القرارات الإدارية اللازمة في أوقاتها الصحيحة!
فمنذ أكثر من عقدين من الزمان ونحن نعاني مشكلة محزنة في مجال خدمات النقل الجوي الداخلي، إذ أصبح من الصعب على المرء أن يجد مقعدا على الرحلات الداخلية. وهي لعمرك فترة قياسية غير معهودة في تاريخ التصدي لفك اختناق خدمة أو توفيرها، وخاصة تلك الخدمات التي يمكن أن تدار بمنهج ومنطق تجاري صرف! إن عقدين من الزمان، هو زمن كاف ليس فقط لفك الاختناق في قطاع خدمي، بل هي كافية لتحويل مجتمع بأسره نحو مشروع تنموي قومي متكامل.
لقد استبشر الناس بخطة كسر احتكار الخطوط السعودية لخدمة النقل الجوي الداخلي، عندما منحت بعض الشركات الخاصة امتياز تقديم الخدمة. لكن سرعان ما خاب ظنهم عندما لاحظوا أن هيئة الطيران المدني استبدلت محتكرا بمحتكر آخر! في حين أن فك مثل هذه الاختناقات كان يستوجب تبني سياسة تنافسية حقة. لم تكن الأولوية عند الناس توفير خدمة الطيران الرخيص، وإنما كانت حاجتهم لمن يوفر الخدمة التي تلبي طلبهم المرتفع، وتحترم أوقاتهم وتقدر مصالحهم وتحفظ كراماتهم.
إن مما دلت عليه التجارب وسبق لبقية أهل الأرض العلم به، أن كل خدمة يمكن أن تباع وتشترى بمنطق السوق، فإنه يجب أن تترك مهمة تقديمها للقطاع الخاص. فهو أقدر وأكثر كفاءة على ذلك، سواء من ناحية توفير الكم اللازم من العرض الذي تتطلبه السوق، أو من ناحية إدارة تكاليف الإنتاج أو أسعار المنتجات أو مستوى جودتها، لكن شرط نجاح كل ذلك يتطلب فتح أبواب المنافسة للجميع.
إنه لمن المحزن حقا فوات هذه الفرص التي يقدمها لنا اقتصادنا على أطباق من ألماس، ثم نكابر بتفويتها وبتأخير اتخاذ القرارات اللازمة لاقتناصها، في وقت يعاني فيه الناس قصورا طال أمده في توفير مثل هذه الخدمات. سوق هذه الخدمة كبير وينمو بمعدلات عالية، وهو يستدعي منح مزيد من الرخص للقادرين والراغبين من رجال الأعمال، بتكوين شركات طيران خاصة لتغطية عجز الخطوط السعودية عن توفير العرض الكافي من خدمات النقل الجوي الداخلي. إن في خدمات النقل الجوي الداخلي فرصا تجارية مضمونة تغري بالاستثمار، وفي كثير من الأسواق تكسب شركات الطيران من الرحلات الداخلية أكثر من الخارجية! كيف وحاجتنا لخدمات النقل الجوي الداخلي تحظى بأهمية خاصة في مجتمعنا بسبب تباعد المسافات بين مدنه الرئيسة، وافتقاره لوسائل نقل عام منظمة وراقية كخطوط السكك الحديدية.
إن مسألة تخصيص الخطوط الجوية السعودية فقط لا تحل هذا الإشكال، كما أنها لا تقضي على تردي الخدمات ونقص عدد المقاعد وصعوبة الحجوزات. نعم قد يرفع التخصيص من كفاءة عمل المؤسسة في بعض الجوانب الاقتصادية والإدارية الداخلية، لكنه لا يقضي على مشكلة الاحتكار. إن حل هذا الاختناق يستدعي أكثر من مجرد تحويل ملكية المؤسسة من ملكية عامة إلى خاصة. إنه يستدعي تغيير هيكل السوق بزيادة المنافسة فيه، لا مجرد إحلال محتكر محل آخر. اخفضوا لنا جناح المودة من الطيران! ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي