الإعلانات .. والقدوة الحسنة
من بين السلوكيات الاجتماعية التي يكاد ينفرد بها المجتمع السعودي ظاهرة الإعلان في الصحف والمجلات بشكل لافت للتعازي وكذلك التهاني لبعض المسؤولين والترحيب بزياراتهم التفقدية. وليت الأمر اقتصر على وفيات وزيارات، بل شملت تلك الظاهرة إعلانات تهانٍ لمسؤولين ورجال أعمال لحصولهم على شهادات فخرية لا قيمة لمعظمها، درجات أكاديمية من جامعات مغمورة، أو جوائز مفبركة لإنجازات باهتة وسجل مهني متواضع. أي أن الإعلان تحول من وسيلة لخدمة المجتمع بالترويج لمنتوجات وخدمات جديدة إلى أداة تزلف ساذج يتحمل تكلفتها الاقتصاد الوطني.
لذا لم تكن مفاجأة أن تناولت الحكومة تلك الظاهرة من الإعلانات بالدراسة من قبل لجنة من وزارات الداخلية، الثقافة والإعلام، والمالية صدر على أثرها تعميم من المقام السامي بتاريخ 6/9/1428هـ تضمن عدداً من الضوابط من بينها إلزام الجهات الحكومية " بعدم استخدام هذا النمط المبالغ فيه من الإعلانات ولاسيما أن زيارات المسؤولين تأتي في إطار ما هو مُناط بهم من مسؤوليات، والتأكيد على منسوبي تلك الجهات بعدم الطلب من الشركات والمؤسسات أن تقوم بهذه الإعلانات وكذلك عدم تكليف المواطنين بأي إعلانات يترتب عليها أعباء مالية ". كما جاء في التعميم توكيد على الصحف والمجلات بمراعاة عدم المبالغة في إعلانات التعازي، التهاني، والترحيب.
إن مما يؤسف له أن يستغل البعض من شركات، مؤسسات، وأفراد مصيبة الموت للتباري والمباهاة بشراء مساحات إعلانية واسعة في أكبر عدد ممكن من وسائل الإعلام المقروءة لتدبيجها بعبارات تعاز مكررة لا تخفف ألماً ولا تُذهب غماً. وما يؤكد جانب العبث في ذلك السلوك الاجتماعي شواهد كثيرة، أبرزها العلاقة الطردية بين مساحة الإعلان ومرات تكراره من جهة وبين المركز الوظيفي والاجتماعي لأقارب الفقيد أو الفقيدة من جهة أخرى. إذ كلما علا ذلك المركز أو اتسعت دائرة تأثيره المالية أو الإدارية، زادت الميزانية التي تنفق على ذلك الإعلان. والشاهد الآخر على زيف ذلك السلوك أننا لم نسمع قط بشركة أو مؤسسة مصرفية مثلاً لجأت إليه، ولو عبر مساحة إعلانية محدودة، للتعزية في وفاة عميل من أولئك الذين يصّنفون ضمن أصحاب الأرصدة الصغيرة.
هنا لابد أن نذكّر أن مواساة أهل الميت وتخفيف آلامهم سنة كان يحرص عليها رسول الله (عليه الصلاة والسلام)، وكتب السيرة حافلة بروايات عن هذا الجانب من حياة المصطفى، لعل من بين أشهرها ما نقله الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه (حياة محمد) عند حديثه عن استشهاد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في غزوة مؤتة، إذ بعد أن فرغ صلوات الله عليه وسلامه من زيارة منزل آل جعفر ومواساتهم قال: "لا تُغفلوا آل جعفر من أن تصنعوا لهم طعاماً فإنهم قد شُغلوا بأمر صاحبهم".
اليوم، وبالرغم من تسلل أنماط جديدة من العيش في حياتنا، لا نزال ننعم في مجتمعنا بروابط أسرية متينة تحمل في ثناياها رصيداً كبيراً من المشاعر الحانية والعاطفة الصادقة تتجلى دون تكلف أو تزلف إن نزلت نازلة بأحد من ذوي القربى، جار، أو صديق. لذا عندما نمعن النظر في الأمر نرى حقيقة أنه ليس هناك إضافة إيجابية في سياق المواساة تقدمها رسائل العزاء عبر الإعلانات على صفحات الصحف. واللافت للانتباه أيضاً أن المجتمعات الغربية التي توصف عادة بأنها مادية تفتقد الروابط الأسرية، تعبر عن مواساتها، إن تعذر الحضور والمشاركة، بإرسال بطاقة شخصية أو باقة ورد إلى مقر تلقي العزاء. وفي كثير من الأحيان يُستعاض عن تلك الباقة بتقديم قيمتها لجمعية خيرية باسم المتوفى بناء على وصيته أو تلبية لرغبة ذويه.
إن من الإحسان أن يستثمر المرء الأحزان للعطاء من أجل تخفيف معاناة الآخرين. ذلك أن قيمة العطاء في تلك المواقف تكبر، والثواب يزداد، والرضا يملأ النفس. غير أن بث هذه القيم في المجتمع يتطلب نماذج صالحة للاقتداء بها. وأحسب أن من بين تلك النماذج ما بادر إليه وزير المالية الدكتور إبراهيم العساف في دعوة المعزين في وفاة شقيقه، يرحمه الله، للتبرع لجمعية مكافحة السرطان عوضاً عن قيمة الإعلان في الصحف ("الاقتصادية" في 16/10/1428هـ). ذلك أن المبلغ المقدر لقيمة تلك الإعلانات، لو فُتح الباب أمامها، يعد بملايين الريالات بافتراض صفحة واحدة قيمتها لا تقل عن خمسين ألف ريال لكل مؤسسة مالية في المملكة، وكذلك الشركات التي تساهم فيها الدولة وكبار المقاولين، وغيرهم.
لكن الإشادة بتلك المبادرة من الوزير لا تكفي، فيا حبذا لو أن وزارة الشؤون الاجتماعية تبنتها وبلورت من خلالها نموذجـاً يمكن أن يستفيد منه الآخرون مستقبلاً في تنظيم إعلانات التعازي. إذ يمكن من خلال ذلك النموذج إرساء أسس اتفاق مع الصحف باقتطاع نسبة قليلة من قيمة أي إعلان للتعازي (دون نشره) وتحويل باقي القيمة إلى إحدى المؤسسات الخيرية بناء على وصية المتوفى أو تلبية لطلب عائلته. ويمكن في إطار ذلك النموذج أن تنشر الصحيفة في نهاية مدة العزاء إعلاناً صغيراً يسرد أسماء المتبرعين وما تبرعوا به من مبالغ باسم المتوفى ابتغاء وجه الله تعالى. ونكون بذلك قد حققنا لأولئك المعزين (المتبرعين) أجر الدارين الأولى والآخرة.
إن إعلانات التعازي ظاهرة جديدة، دعونا نستثمرها لصالح المجتمع من خلال فكر جديد .