لم نعد نبتسم!
أخذتني الرغبة في استعادة أيام الذكريات الجميلة، وبلا شك أن التسوق أحد المثيرات، إذا ما ارتبط بالمكان المناسب.
في أيام التسوق الأولى كنّا - سكان العاصمة الرياض - لا نعرف إلا البطحاء، والحقيقة أننا لم نكن نعرف غيرها حتى ما قبل الطفرة الأولى، سواء للمواطن أو المقيم .. هي مركز كل شيء، فالناس يتجهون إليها كل يوم وكل حين، محالها مشرعة وفيها حتماً ستجد ما تبحث عنه .. حتى الكتب التي كنّا نمني النفس باقتنائها، مع إدراكنا أن الرقيب قد منع دخولها البلد نجدها في هذه البطحاء، وتحديداً عند أولئك الذين ينثرون كل بضاعتهم من الكتب على الأرض أو بجانب الرصيف، أو على سطح سيارة ونيت .. ومع التغيير الكبير الذي طرأ على البطحاء، بعد أن سحب البساط من تحتها، وبتنا نترحم على ماضيها التليد أصبحت تختص أكثر بمحال لا يرتادها إلا كبار السن من الرجال والنساء، إما لارتباط نفسي وإما باحثين عن محال العطارة، لاقتناء ما يخص "الديرمان" والزينة القديمة، والمطارح القطنية (الفراش الخاص بالنوم) وما شابهها .. وفي ظل الآثار الباقية من محال تجار الجملة الذين ندعو أن يعوضهم الله خيراً بعد الحريق الذي التهم بضائعهم ..
أقول إن المفاجأة أن بسطات الكتب المتناثرة وجدتها خلال هذه الزيارة الحديثة على حالها كما كانت عليه في السابق، أشاهد من بينها دواوين نزار قباني الممزقة أغلفتها .. والكتاب الشهير"دع القلق وابدأ الحياة" .. وحتى كتاب حياتنا الجنسية الذي كان يخفيه البائع، إما تحت مقعده، أو تحت مرتبة سيارته وإذا وثق بالزبون واتفق معه على السعر أحضره وسلمه له خلسةً، كان موجودا .. لكن هذه المرة ظاهراً للعيان دون وجل أو خوف..
نعم هي الكتب نفسها والبائع يحمل الجنسية نفسها بعد أن كشف ذلك من خلال لهجته اليمنية.. وكأن السنين تعيدني من جديد إلى أكثر من ربع قرن مضى.
ومع الذكريات المتلاحقة التي عصفت برأسي لفت نظري كتاب من فئة كتب الجيب، فحواه عن الابتسامة والفرح، وتأثيرهما في السلوك والحياة... وبعد تقليبه وقراءة أكثر من صفحة .. أيقنت جازماً أن مثل هذا ما يحتاج إليه وقتنا الحالي بعد أن جفت الحياة وباتت أكثر ضيقاً وأقل فرحاً .. نعم فمثل هذا الكتاب لا يتفق مع الماضي التليد للبطحاء حينما كانت الابتسامة عنواناً لمرتاديها، والتسامح أساساً لتجارها .. وهم عبر تاريخهم وفعلهم يجسدون حال البلاد والعباد في تلك الفترة .. وخلافاً لما هو عليه معظم الناس في زمننا الحالي ممن تستفزهم الابتسامة، وتثيرهم حد التصادم الدعابة، وبما يعطيك تصوراً بأن هناك خللاً في السلوك البشري المعاصر. الأمر الذي أوجد إفلاساً في المرح والمزاح .. ناهيك أن القدرة على إظهار مشاعر الحبور والفرح باتت من سوء الذوق .. فكيف بالدعابة والمزاح؟!
الحياة الآن أصبحت قاسية من الناحية الإنسانية العلاقاتية .. ولا تشبه ما كانت عليه بطحاء زمان التي يلتقي فيها السعودي وإخوانه العرب بكثير من الود والعلاقة الحميمة، بحيث كانت مثالاً للجامعة العربية النموذجية التي يندر وجودها في أي بلد عربي آخر، وحتى تحت سقف ما يسمى بالجامعة العربية في القاهرة!
نعم فقد نسينا كيف نبتسم .. ثم نسينا كيف نتسامح .. فبتنا لا نطيق بعضنا .. والخلل ليس فيك أيتها البطحاء بل فينا نحن، لأننا من انساق نحو الحياة المادية وترك فن الابتسام الذي لم نكن في ذلك الزمن بحاجة إلى أي كتاب ليشرح لنا كيف نبتسم أو نتقبل الدعابات فيما بيننا ..وليرحم الله بطحاء زمان!