تركيا في لعبة الأمم
دهاليز السياسة أكثر تعقيدا مما يظن متابعو الأحداث وعلماء العلاقات الدولية. وما يجري حول تركيا وفي قلبها وعلى حدودها يثير تساؤلات كثيرة. ولا يختلف اثنان على أن الساسة الأتراك مهمومون بثلاثة ملفات, هي:
1- الحرب الإعلامية التي يشنها الغرب عليها بشأن مسؤولية الحكومة التركية أو العثمانية عن مذابح الأرمن 1912.
2- المحاولات الحثيثة للانضمام الكامل إلى الاتحاد الأوروبي.
3- سخونة الحدود بعد قرار الحكومة التركية الدخول إلى الأراضي العراقية لكبح جماح حزب العمال الكردستاني، أو للاستيلاء على حصتها في الكعكة العراقية كما يقول البعض.
فيما يتعلق بالملف الأول وهو ترديد ما دأب عليه الأرمن من خلال جاليتهم الكبيرة في كاليفورنيا أو أستراليا أو في الدولة الأرمينية الوليدة بأن طلعت باشا ومدحت باشا وجمال باشا كانوا من بعض رموز القتلة الذين ارتكبوا مذابح في حق الأرمن. والملف قديم ولكنه يطفو على السطح كلما كان لواشنطن مصلحة في ذلك. ولذلك يتساءل الكثيرون: ما شأن الكونجرس الأمريكي المفترض أنه مؤسسة محلية أمريكية تعنى بالمصالح الأمريكية ليتدخل في سفور شديد في حروب وقعت منذ 90 عاما بين تركيا والأرمن؟! إن الرئيس ويلسون ومن سبقوه لم يتدخلوا في الوقت الذي اختير لوقوع الحوادث، فلماذا انفعل الكونجرس بهذه الحدة؟
يقول بعض المراقبين إن تركيا وهي حاملة طائرات أمريكية بكل ما تعنيه الكلمة (كل العتاد الأمريكي والقوات الأمريكية تأتي من تركيا باستثناءات قليلة عرفت طريقها من بعض دول الخليج).
بدأت تضايق الأمريكيين وتهددهم بإغلاق هذا الطريق المفتوح للسيطرة على الشرق الأوسط، لأن الأتراك يريدون الثمن. ومن الواضح أنهم يريدون ثمنا مرتفعا، فهم يريدون آبار بترول لهم في كركوك وأربيل وهم يريدون السيطرة على شريحة كبيرة من الشمال العراقي، وليس سراً أن لعاب الأتراك يسيل منذ عقود للحصول على هذا المغنم. هم يعتبرون أن جلاءهم عن هذه المناطق تحت ضغط البريطانيين كان جزءا من لعبة أمم في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات لا بد من تجاوزها.
وأمريكا التي تهيمن على مقدرات العراق لا تريد شريكا يقتسم معها المغانم. ويرى البعض أن تركيا رغم الاعتراض الظاهري من واشنطن حصلت على نور أخضر للمضي قدما والاستيلاء على قطعة الأرض الكردية، خاصة أن زعماء الأكراد لا وزن لهم في الحسابات التركية أو الأمريكية لأنهم لا يمنعون هجمات المسلحين الأكراد.
ويحلم الأكراد بدولة مستقلة تضم كل المناطق التي يقيم عليها الأكراد في خمس دول هي تركيا حيث الأغلبية الكردية في الجنوب الشرقي ثم العراق وإيران وسورية وأذربيجان, ويتشجع الأكراد على المطالبة بالدولة خاصة مع وقوف إسرائيل منذ عقود وراءهم لأنها تريد أن تؤكد أن الشرق الأوسط ليس حكرا على العرب، ووجود دولة ذات عرقية مختلفة وبدعم إسرائيلي يضمن لإسرائيل حليفا لأنها تحلم بأن تبقى في المنطقة.
من هنا يدرك الأتراك أن الوقت قد حان ويفتح الأمريكيون صفحة المذابح لتخويف الأتراك، ويرد الأتراك بأنهم خدموا أمريكا كما لم يخدمها أحد، فقد أبلت الألوية التركية بلاء حسنا في الحرب ضد الشيوعيين إبان الحرب الأمريكية وفقدوا آلاف القتلى في قضية لا تمسهم، ولم يحصلوا على ثمن معقول، هذا فضلا عن دورهم في تطويق الاتحاد السوفياتي من خلال حلف بغداد والحلف المركزي والتصدي لحركات القومية العربية وإعطاء نموذج الارتداد عن الخلافة باعتباره بطولة وقومية. ولكن الولايات المتحدة شأنها شأن الدول الكبرى على امتداد التاريخ تريد أن تأخذ بقوة البطش ولا تترك للشريك الضعيف إلا القليل الذي تسمح به في ضوء حسابات كثيرة.
يرد الأتراك بأن الإبادة الجماعية تهمة قاسية، وأن ما حدث كانت تصفيات لتمرد داخلي أشبه بما فعله الشماليون الأمريكيون بالجنوبيين فيما سمي الحرب الأهلية أو حرب الاتحاديين Uni onistsc ضد الكونفدرالية Con federaly، وقد فقدت أمريكا مليونا ونصف المليون كان معظمهم من الجنوبيين. ويرفض الأمريكيون اعتبار الجنرال (الرئيس فيما بعد) جوانت مجرم حرب، بل هو بطل أعاد وحدة البلاد.
ويرفض الأمريكيون أيضا اعتبار مدحت باشا وطلعت باشا جنرالات توحيد لأنهم أدبوا الأرمن الذين لعبوا إلى جانب الروس في الحروب المطولة بين الدولة العثمانية وروسيا القيصرية.
ونحن نذكر واشنطن لأنها مصابة بضعف ذاكرة أشبه برئيسها ريجان في السنوات الخمس السابقة لوفاته، بأن حالات الإبادة الجماعية لا تقتصر على الهولوكوست ومذابح الأرمن، كما تدعي ولكن أبرز حالات الإبادة في تاريخ البشرية هي إبادة شعب كامل يمتلك وطنا كاملا وبعد قتله مع أبقاره وخيوله وجاموسه احتلت أرضه لتصبح أرضها وأمطرت العالم بآلاف الأفلام التي تشرع القتل الجماعي للهنود الحمر التعساء. ولا أحسب أن هناك مذابح منظمة فاقت هذه إلا مذابح الإسبان ضد المايا والانكا والحضارات العريقة في أمريكا الوسطى والجنوبية ثم سلبت أعظم وأكبر آنية ذهب في التاريخ أنعشت حركة القرصنة وأنعشت اقتصاد أوروبا بأسرها, حيث دأب الإسبان على شراء التقنيات الإنجليزية والألمانية والفرنسية من خلال الذهب المنهوب, فانتعشت اقتصادات تلك الدول, وسرعان ما أصبحت هي نفسها قوى استعمارية تنافس إسبانيا في النهب.
أما قصة الأفارقة الذين حملتهم سفن الغرب غربا إلى أمريكا فهي أبشع ما ارتكبه البشر في حق إخوانهم, فقد نقل 70 مليون إفريقي مات منهم ما لا يقل عن 30 مليونا على امتداد قرن ونصف قرن من تجارة الرقيق لإعمار مزارع القصب والقطن والدخان والذرة, ما جعل أمريكا أغنى بلاد العالم فأين الاعتذار للهنود والسود؟ وأين تعويضهم؟ لا بد أن الأتراك يرددون ذلك في سرية وسكون حتى لا تسمع واشنطن أزيز احتجاجهم .. وإلا!
أما الملف الثاني وهو الحرص على الدخول إلى أوروبا فهو مرتبط بمدى الرضا الأمريكي عن تركيا, فليس سرا أن الاتحاد الأوروبي مهما ادعى ما زال يرفل خائفا تحت مظلة حلف شمال الأطلنطي الذي تموله وتقوده أمريكا. ومن هنا فإن قراراته الاستراتيجية مشوبة بحسابات أمريكية.
حقا لا ينسى الأوروبيون حروب الدولة العثمانية والضربات الساحقة التي تلقوها في القوقاز والبلقان وبلغاريا والنمسا والمجر وبولندا وروسيا على يد الأتراك العثمانيين حتى أنهم أطلقوا كلمة Turk "أي تركي" على كل ما هو شديد القسوة, واستمتعوا بأكل هلال العلم التركي في المخبوزة الشهيرة "الكرواسون" وأطلقوا على الديك الحبشي اسم TURKEY لينعموا بذبحه في عيد الشكر.
ولا يمكن أن تمحى هذه الذكريات الغائرة في أعماق تاريخ وشعوب. وتصر تركيا على أن تقف على باب أوروبا وتدق دقات خافتة وتتوسل لعلهم يفتحون الباب ولكن يبدو أن فتح الباب له ثمنه. وعندما ألمح أحد الساسة الأتراك بأن فرنسا ارتكبت في الجزائر مذابح راح ضحيتها أكثر من مليون شهيد رد الفرنسيون بتخويف رهيب أسكت صوت الأتراك المتطلعين إلى معايشة الأوروبيين بغض النظر عن الحكمة القائلة: كن أميرا بين الصعاليك أفضل من أن تكون صعلوكا بين الأمراء.
ورغم البعد الشكلي بين علاقة أمريكا وتركيا وعلاقة أوروبا وتركيا, فإن ملفا مثل الأرمن يكشف التطابق ويبرهن على أدوار تصوغها لعبة أمم إزاء الشرق الأوسط.
ولعل الأتراك قد فهموا مغزى إحباط جهودهم الطويلة في خدمة الأمريكيين دون جدوى, ثم تذللهم أمام الأوروبيين فاشترطوا عليهم:
ـ اعتذارا عن مذابح الأرمن.
ـ تنازلات في قبرص لليونانيين.
ـ التنكر الكامل لماضيها الإسلامي وقمع حاضرها الذي يميل إلى الإسلام.
من هنا جاءت حكمة أبي فراس الحمداني:
وقال أصيحابي الفرار أو الردى
فقلت هما أمران أحلاهما مر
فانطلق الأتراك وراء الخيار الصعب هو خيار الحرب والغزو لأنه ورقة أمر واقع, يمكن أن يجلسهم على مائدة حوار ومفاوضات في وضع أفضل. فقد يربحون دخول الاتحاد الأوروبي وقد يكسبون قطعة أرض عامرة بالنفط, وقد يعززون قوتهم العسكرية بتأمين حدودهم الجنوبية ومن ثم الاحتفاظ بكل الأكراد الأتراك في وضع الرهائن المسجونة بعيدا عن دعم إخوانهم في العراق وإيران, وقد يكون الأمر مجرد اتفاق أرادت من ورائه أمريكا تخويف العراق من انسحابها المبكر وتركها للجيران الأتراك والإيرانيين, وربما كان بداية التقسيم الفعلي للدول الثلاث المرجوة إسرائيليا وأمريكيا في العراق لأن حدثا بهذا الحجم لا يمكن أن يبدأ دون حرب وارتطام وصدام مصالح عسكرية واستراتيجية