تفاقم الخلل بين الاقتصادين الكلي والجزئي
خاطرة: فرحنا كثير بافتتاح "جامعة عبد الله للعلوم والتقنية" وكانت فرحتنا أكثر عندما عرفنا أن الفريق المسؤول عن تأسيس الجامعة يقوده أبناء "أرامكو" وعلى رأسهم المهندس على النعيمي وجنود مجهولون آخرون، وهو ما أكده تعيين رئيس مكلف نحسبه يتمتع بالمهنية الكافية وهو ما تحتاج إليه الجامعة الوليدة ونحتاج إليها في كل شؤون حياتنا وليس بحرف الدال الذي أصبح لا يدل على شيء في كثير من الأحيان مع بعض الاستثناءات والإضاءات القليلة التي إن توافرت فخير على خير.
موضوعنا اليوم هو سؤال بحجم المملكة وبحجم التحديات التي تواجهها محلياً وخارجياً، ومن الأفضل حقيقة أن يوجه هذا السؤال عبر استفتاء شعبي عام ورسمي لفهم أكثر لأسباب التنافر المتزايد بين الاقتصادين الكلي والجزئي. حيث كل المؤشرات الكلية إيجابية بما في ذلك التدفقات النقدية التي تأتي من إيرادات النفط وهو أمر معروف ومعلوم بالضرورة حيث تقترب بشكل سريع من حاجز 800 مليار ريال حسب تعريف عرض النقود الشامل (ن3)، في مقابل تقلص ملحوظ في القدرات الشرائية والادخارية الفردية والأسرية للمواطن والمقيم لمقابلة المصروفات الحياتية (المستوى الجزئي) والشكوى المتزايدة من التراجع في مستويات الاستهلاك الخاصة بسبب تراجع القدرات المادية لعدد كبير من الأسباب التي لا داعي لسردها!
طبعاً لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال الكبير من خلال مقالة سريعة حيث إن هذا الموضوع شكل جزءا كبيرا من بحوث وكتابات طويلة بعمر الرأسمالية نفسها وبعمر مفكريها وحقيقة نظامها العام ومدى عدالته، حيث لا يزال قائما كسؤال حقيقي مطروح رغم أنها أفضل ما وصلت إليه البشرية حتى الآن كتطبيق! ولكن الهدف هو فقط للتنبيه حول تفاقم المشكلة وعدم وضوح المعالجات التي يجب أن تكون على المستويين الكلي والجزئي معاً وليس لمستوى دون آخر.
ويزيد من حجم المشكلة وضبابيتها عدم وجود جهاز رسمي أو غير رسمي يقيس بشكل "حقيقي" مستويات المعيشة وتكاليفها الحقيقية والمؤشرات المصاحبة لها، رغم وجود مؤشرات للأسعار وتكاليف المعيشة ولكنها مع كامل احترامي لوزارة الاقتصاد والتخطيط فهي لا تعكس الحقيقة ولا بنسبة 50 في المائة من حقيقة الوضع المالي للأفراد والأسر، وليس هناك مبالغة في الموضوع حيث إنها (أي الوزارة) وبتصريح رسمي ألغت الفقر من بلادنا ولله الحمد! وفي كل دول المؤسسات هناك دائما مؤشرات أخرى لا تمثلها الجهات الرسمية تقوم بقياس تكاليف المعيشة والأسعار لها مصداقية كبيرة بهدف مقارنتها بالرسمي من المؤشرات وكذلك بهدف توجيه الرأي العام وتنبيه الجهات الرسمية للمشكلات الحقيقية التي يعيشها السكان سواء مواطنين أو مقيمين بدلاً من اجتهادات الكتاب والصحافيين. وبسبب عدم وجود مؤشرات تعكس حقيقة الأوضاع المعيشية حيث يعُتمد على القراءات الرسمية، يتفاقم الخلل يوما بعد يوم بين الكلي والجزئي، وهو في زيادة مستمرة ما دام هناك من لا يرى أن هناك مشكلة وكل الأمور تمام التمام.
وفي كل دول المؤسسات كانت هناك تجارب مختلفة في انحراف الرأسمالية عندما تركت دون ضوابط حيث طُورت تشريعات ويتم تطويرها باستمرار لحماية الشعوب من الوجه البشع لها حتى في عقر دار مؤسسي تلك الرأسمالية وأولها الولايات المتحدة الأمريكية والقارة الأوروبية. وفي هذا الخصوص آمل من المسؤولين والمراقبين على حدا سواء أن يطلعوا عليها ويحاولوا الاستفادة من تلك التجارب، حيث ثبت بالتجربة أن الرأسمالية لا يمكن أن تعمل وحدها بمعزل عن وجود سياسات تشريعية مقننة لها ومتجددة تتماشي مع طبيعة التحديات والظروف وليس حلا واحدا لجميع المشاكل One fit all. وحتى لا يتشعب البحث فقط لنقرأ ما حدث من تشريعات وتطورات في لجم الرأسمالية داخل أمريكا منذ عام 1928هـ وحتى اليوم (80 عاما) حتى تعرفوا حجم التطورات التي حدثت للحد من انحراف الرأسمالية عن الأهداف الاجتماعية المنشودة.
واهم أدوات الحد من الخلل بين الكلي والجزئي في كل دول المؤسسات هو وجود رابط رسمي بين التضخم والأجور للعاملين مواطنين ومقيمين، وحتى في عقود الشركات فيما بينها محليا ودوليا هناك بند دائم في تلك العقود يعطي الحق لأحد الطرفين في رفع الأسعار حسب مؤشرات التضخم الرسمية للبلد الذي تعمل فيه تلك الشركة. التضخم لدينا في زيادة وهو أمر لا مفر منه وقد يتجاوز رسميا معدل 10 في المائة خلال سنتين إذا ما استمرت العوامل المسببة له في المستوى نفسه وهو ليس عيبا ويجب ألا نخجل منه أو ننكره، فهو طبيعي في مثل الحالة التي يمر بها الاقتصادان المحلي والعالمي من نمو كبير وتدفقات مالية متفاقمة عابرة للقارات، وكذلك نفقات رسمية متزايدة ومشاريع كبيرة وتطوير حقيقي للبنى التحتية، وتأثره أيضا بجوانب العولمة التي لا مناص من الدخول في تحدياتها من تضخم مستورد وتضخم بسبب الزواج الكاثوليكي بين العملات الخليجية والدولار المريض أو المتمارض.
علينا أن نربط ذلك العامل المتغير (التضخم) بدخل الفرد (الثابت) وإلا زاد الخلل بين الاقتصاد الحقيقي وهو قدرة الفرد والأسرة وهم المحرك الرئيسي للاقتصاد وبين المؤشرات الكلية التي بالنسبة للفرد العادي لا تسمن ولا تغني من جوع وفقر. وقد كانت إحدى أهم نتائج هذه الحالة التآكل المتزايد في أعداد الطبقة الوسطى التي هي المحرك الرئيسي لأي اقتصاد رأسمالي يقوم على معادلة العرض والطلب وعجلة الاستهلاك!
في كل دول المؤسسات هناك تدخل لتقديم المصالح العامة على الخاصة في حالات معينة بحكم القانون وبحكم المصلحة العامة والمحافظة على كرامة المواطن والمقيم، وحتى في الشريعة الإسلامية المصالح العامة مقدمة على الأصول والثوابت كما يقول الفقهاء.