اهتمام ولي الأمر بظاهرة الغلاء
عيدكم مبارك. وجعلنا المولى وإياكم من الفائزين المقبولين.
لعل السعوديين سيذكرون هذا العيد بأنه العيد الذي اقترن بظاهرة ارتفاع الأسعار، مثلما رسخ العيد الماضي في ذاكرتهم بأنه العيد الذي تلا خسائرهم الكبرى في نكبة انهيار سوق الأسهم. ولذلك تلقى المواطنون باهتمام كبير خلال الأيام الأخيرة من شهر رمضان التوجيه الملكي الكريم لسمو وزير الداخلية وأمراء المناطق، بمراقبة ظاهرة الغلاء وارتفاع الأسعار المحلية ورفع تقارير فورية للمقام السامي عنها. وهم واثقون بناء على هذا الاهتمام والتوجيه الملكي لسمو وزير الداخلية وأصحاب السمو أمراء مناطق بلادنا، واثقون أن هذه التقارير سوف تسفر عن نتائج إيجابية تسعدهم. ويحق لهم ذلك، لأن هذا التوجيه الملكي يعكس أمرين مهمين:
الأول: اهتمام ولي الأمر الكبير بهذه الظاهرة، وشعوره الحاني ومشاركته ـ حفظه الله - رعيته بما بات يقلقهم ويقض مضاجعهم بسبب الآثار الاقتصادية السلبية على مستوى معاشهم التي ترتبت على عجزهم عن ملاحقة الارتفاعات المتواصلة في الأسعار، خاصة أنها تأتي في فترة هي من أحرج فترات حياة الناس الاقتصادية، بعد أن فقد كثير منهم جزءا كبيرا من مدخراتهم في نكبة انهيار سوق الأسهم. وهي المدخرات التي كانوا يعتمدون عليها في الملمات وأوقات العسر، وبفقد جزء كبير منها ما عاد لديهم ما يعتمدون عليه ليخففوا عن أنفسهم من غلواء هذه الظاهرة، ويتمكنوا من مقابلة استحقاقات مصاريف حياتهم. فقد انفلت عقال التضخم ليضرب في كل اتجاه ... في مواد البناء ثم في الدواء ثم أتى على الغذاء مرورا بالرداء والسكن والتعليم والصحة، والحبل على الجرار. ولا شك أن تكليف سمو وزير الداخلية - حفظه الله ـ بمتابعة هذه الظاهرة مع أمراء المناطق، يدل على حكمة ولاة الأمر، في ضرورة وأهمية التصدي للتضخم بالسرعة والكفاءة اللازمتين، حتى لا يأخذ منحى آخر يهدد سلامة البنيان والاستقرار الاجتماعي.
والثاني: وصول الظاهرة إلى مستويات مقلقة تستدعي تضافر جهود مختلف الجهات الحكومية وغير الحكومية لمواجهة الحالة ومتابعتها ورصد تطورها عن كثب. وهناك حاجة بالفعل لتنسيق مختلف السياسات الاقتصادية والإدارية الكفيلة بكبح جماح ظاهرة ارتفاع الأسعار والسيطرة عليها. ثم العمل بروح الأسرة الواحدة لدراسة البدائل الممكنة كافة للتصدي للظاهرة، وامتصاص آثارها الاقتصادية والاجتماعية السلبية والحد من انتشارها.
لا شك أن ارتفاع الأسعار وصل إلى مستويات باتت تقلق الجميع. وكانت مصلحة الإحصاءات العامة قد أعلنت يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر رمضان الماضي، عن مستوى قياسي جديد للتضخم في اقتصادنا بلغ نحو 4.4 في المائة، وهو أعلى معدل خلال سبع سنوات. وتزايدت مخاوف المراقبين من أن هذا المعدل قد يواصل ارتفاعه في الأشهر المقبلة ليصل قريبا من معدل النمو الاقتصادي الجاري (كان معدل النمو يراوح حول 6 في المائة في العام الماضي، لكن يُتوقع أن يكون أقل من هذا المعدل في العام الجاري). ويأتي الإعلان عن هذا المعدل الجديد المقلق، على الرغم من أن عددا من المتخصصين يعتقدون أن معدل التضخم الحقيقي أعلى مًما هو منشور. وهذا يعيد للأذهان الحاجة إلى مراجعة طريقة حساب معدل التضخم في اقتصادنا من قبل مصلحة الإحصاءات العامة، لتكون أكثر دقة في التدليل على التغيرات الحقيقية في مستوى الأسعار. وربما تستدعي هذه المراجعة إعادة النظر في أمرين: الأول، سنة الأساس المختارة التي تنسب التغيرات في الأسعار إليها. والثاني، الأوزان النسبية للمجموعات السلعية الداخلة في تقدير معدل التضخم. وهناك ضوابط معروفة لاختيار سنة الأساس يحب مراعاتها، من أجل دقة حساب معدل التضخم وحقيقة تعبيره عن واقع الحال. كما أن لطريقة تصنيف وحساب الأوزان النسبية للمجموعات السلعية أثرا كبيرا في توضيح حقيقة التغيرات في الأسعار.
جميل ومفيد أن نبحث ونعرف ونحدد ونشرح للناس أسباب تضخم الأسعار، لكن الوقوف عند هذا لا يكفي ولا يغني من الأمر شيئآ. فكبح جماح التضخم يتطلب الاستفادة من خطوة تقصى الأسباب للانتقال منها فورا لخطوة تالية، تتضمن وصف العلاج وتبني سياسات اقتصادية ملائمة في شكل خطوات وإجراءات عملية محددة كفيلة بالسيطرة على الظاهرة وإعادة التوازن الاقتصادي المنشود.
إن من أهم أهداف السياسة النقدية في أي مجتمع، هو المحافظة على استقرار الأسعار، عن طريق السيطرة على العرض الكلي للنقود بما يناسب حجم ومستوى النشاط الاقتصادي الداخلي. وفي أوقات معينة يستدعي هدف المحافظة على استقرار الأسعار أيضا، مراجعة سياسة سعر صرف العملة. فتثبيت سعر الصرف ليس هدفا في ذاته وإنما وسيلة لتحقيق استقرار الأسعار، فإذا أضحت سياسة التثبيت مضرة، وجب أن نكون مرنين بشأنها. والواقع أن قيمة الريال مقابل الدولار أصبحت تقل بنحو 30 في المائة عن ما يجب أن تكون، وذلك وفقا لمؤشر " بيغ ماك" الذي تشرف عليه مجلة "الإيكونوميست". وهو المؤشر الذي يعزو أي فروق في الأسعار إلي الخلل في توازن سعر الصرف. وهناك أكثر من دراسة توصلت إلى النتيجة نفسها.
وفي كل الأحوال، وسواء كان التضخم يعود لأسباب داخلية تتعلق ببرامج الإنفاق وارتفاع مستوى السيولة، أو كان لأسباب خارجية تتعلق بارتفاع التكاليف وتدهور سعر الصرف (كما ظهر في الإعلانات المتكررة للتجار المحليين المستوردين للسلع الغذائية)، فإن المصلحة تستدعي سرعة تبني إجراءات اقتصادية وإدارية محددة و فعالة للسيطرة على التضخم. نتابع مثل هذه الإجراءات في مقالات قادمة بحول الله. وكل عام والجميع بخير وصحة وهناء بعيد عن الغلاء.
أستاذ الاقتصاد، جامعة الملك عبد العزيز