على حافة القرن الجديد

جريا على عادة المفكرين عندما يلتقون, فهم يطرحون الأفكار والقضايا, وقد لفت نظري حوار مهم بين ثلاثة من المهتمين بالمستقبليات, هم: إريك هوبزبوم, أنطونيو بوليتو, وألن كاميرون (أمريكي وإيطالي واسكتلندي) وانطلق الحوار حول القرن الحادي والعشرين, وما يحتويه في طياته من تحديات بمقارنة محددة بالقرن الماضي. وتنبع أهمية الحوار من أنه بناء لأفكار مستقبلية على قواعد من الماضي, فالمسألة ليست من قبيل التنبؤ ولكنها قياس عقلاني على معطيات عايشناها.
بدأ الحوار بتساؤل من بوليتو إلى هوبزبوم: هل تحن للقرن العشرين؟ وهل تتفق مع إسيا برلين عندما وصف ذلك القرن بأنه أسوأ قرن في تاريخ الغرب والبشرية؟ ويرد هوبزبوم: ما قاله برلين صحيح ولكنه ليس كل الحقيقة, فقد كان قرنا غير عادي بصرف النظر عن الكوارث التي وقعت فيه, فلا يختلف اثنان على أنه بنهاية القرن العشرين كانت الحياة أجمل وأكثر راحة وأفضل من أوجه متعددة, فأطفاله أسعد حظا من أقرانهم في قرون ماضية. لقد تم القضاء على الجدري والدفتريا والسعال الديكي والطاعون والسل وغيرها وحقق الإنسان خطوات طبية وهندسية عملاقة, وأصبحت الحياة أيسر, ولكن المهم هو شكل المستقبل في ضوء هذه التطورات. فالقرن الحادي والعشرون سيشهد إنجازات عبقرية وعملاقة تشهد على قدرات الإنسان ومواهبه, وسيكون أفضل من الناحية الاقتصادية, وسينجح الإنسان في التعامل الأفضل مع البيئة ومن ثم سينجح في استغلال الإمكانات الهائلة المتاحة لتحقيق مزيد من الرخاء ودون تدمير للبيئة, أو هبوط بمستوى المعيشة.
سيتوقف ذلك كله على القرارات السياسية الدولية وليس من المتوقع أن تظل حكرا على طرف واحد.
واتفق المفكرون على أن الجنون الإعلامي الذي تصاعد في القرن الماضي مع بداية تفجر الثورة الإلكترونية الاتصالية سيخفت ويهدأ, ولن تنجح وسائل الإعلام خاصة الأمريكية في استثارة حماس الأمريكيين في اتخاذ خطوات عدوانية لأنها ستكون قد تعلمت من دروسها.
أكبر ما يخيف الإنسان في القرن الحادي والعشرين هو تفاقم مشكلة الاحتباس الحراري وما يعنيه ذلك من آثار اقتصادية إلى جانب مشكلة الفيضانات والأعاصير التي يتوقع علماء الأرصاد زيادتها في القرن المقبل.
وغاية ما يثير الرعب هو اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء سواء بين أبناء الدولة الواحدة أو بين الدولة ودول أخرى مجاورة أو بين المناطق بعضها وبعض. وقد ترى الدول الغنية أن هذا الأمر لا يستحق الاهتمام باعتبارها المستفيدة ولا تكترث لاتساع الفجوة بين شديدي الثراء والآخرين, خاصة إذا لم يصل الفقراء إلى حد الإنهاك والجوع, والفقراء هم الذين لا تزيد دخولهم على نصف متوسط الدخل القومي.
ويبدي هؤلاء المفكرون قلقهم من أن الفرق في الدخول بين أثرياء أمريكا وفقرائها زاد بعشرة أضعاف عام 1999, بل إن هؤلاء الفقراء خسروا 9 في المائة من دخولهم عما كانوا عليه عام 1977.
ولأن اقتصاد السوق سيكون النمط السائد في العالم في القرن الحادي والعشرين فإن اتساع الهوة سيمضي في ازدياد.
وتفيد إحدى الإحصائيات أن الـ 20 في المائة الأكثر ثراء في العالم يتمتعون بدخل يزيد 150 مرة على الـ 20 في المائة الذين يقبعون في القاع على قائمة الدخل, ومازالت الفجوة في اتساع.
ويجمع المفكرون على أن وجود مليار إنسان في مستنقع الفقر المدقع مع وجود مليار يتمتعون بارتفاع مستوى معيشتهم ليس نكتة, بل كارثة رهيبة ولا يمكن استمرار الوضع على هذا النحو, حتى لو حدث تحسن طفيف للفقراء. إن المعنى الوحيد لذلك هو أن الفقراء سيتخذون موقفا عنيفا ولن يختاروا البقاء ساكنين ليحلموا برخاء قد يحل عليهم.
والحالة الصعبة تتمثل في أن تركيز الثروة في بضع دول عبر القرن المقبل سيضغط على الطبقة المتوسطة المنوط بها صنع الإنجازات الاقتصادية, وليس سرا أن رضا هذه الطبقة هو الورقة التي اعتمد عليها أصحاب الرساميل في الغرب, بل إن التوازن الاجتماعي بأسره جاء نتيجة التعادل بين عطاء هذه الطبقة وبين ما تحصل عليه.
وفي حالة وقوع زلازل اقتصادية عنيفة تتلقى هذه الطبقة الضربة الموجعة, وهذه الزلازل من المتوقع زيادتها لأن ذلك من طبيعة نظام الاقتصاد الحر, ومقياس ريختر الاقتصادي يؤشر بضربات عنيفة في أمريكا الشمالية وأوروبا. وليس من المفيد لأحد أن يقلل من شأن هذه الاحتمالات, ولا ننسى الانهيار الذي حدث في سوق السيارات في البرازيل, الذي أدى إلى انخفاض وخسائر قدرها 40 في المائة من إجمالي المتداول في السوق. وهو موقف قابل للتكرار في كل دول العالم الصناعي. وفي إحصاء تم إجراؤه في كوريا الجنوبية ظهر أن 6 في المائة ممن شملهم الاستبيان ينتمون إلى الطبقة العليا, وأن 70 في المائة ينتمون إلى الطبقة المتوسطة و24 في المائة وقعوا في الطبقة الفقيرة. كان ذلك عام 1997 وبعد ثلاث سنوات كانت الأرقام على الوجه التالي:
1 في المائة طبقة عليا, و46 في المائة طبقة متوسطة و53 في المائة طبقة فقيرة, وهذا مؤشر يقول الكثير عما يمكن أن نتوقعه في القرن الحادي والعشرين. وأبرز ما فيه تركيز الثروة في أعداد أقل وإجماع جميع من شملهم الاستبيان على اختلاف طبقاتهم على أنهم فقدوا ثلث دخلهم بسبب حالة الركود الاقتصادي التي بدأت تطل بوجهها مع حلول القرن الحادي والعشرين. والمغزى الأكبر لهذه الحقائق هو أن هناك أعدادا كبيرة من الدول (الأغلبية في العالم) تنجرف تدريجيا نحو التدهور, ووجود أقلية في قائمة الارتقاء الاقتصادي. وتتمتع الأقلية الثرية بسيطرة مالية وتقنية وعسكرية. والنتيجة الحتمية استمرار رفض الأغلبية الأقلية وتواصل الكراهية بين الفقراء والأثرياء مثلما كان الحال في القرون الاستعمارية السابقة, عندما كان العالم أجمع يكره القوى الاستعمارية المستعدة دائما للهجوم على خيرات الضعفاء بحجة المصالح المشروعة. ولكن هناك ورقة في صالح الضعفاء تتمثل في التفوق الإعلامي بلا حدود وتوافر المعلومات التي تتيح تشخيص مواطن الخلل. وأقرب شيء للذاكرة البشرية تلك الحروب التي شبت في البلقان والعراق وأفغانستان. حيث يصعب جدا الاتفاق على مشروعيتها, فبعضها رفضته الأمم المتحدة وبعضها كان يمكن تجنبها حتى أن صحافيا إيطاليا كتب يقول: إنها مجرد حروب شبيهة بحروب الغزو والاستعمار الأوروبي, ولا مجال للحديث هنا عن عدالة وحرية كما تردد الشعارات المصاحبة. ويتوقف المراقبون عند حادث قصف السفارة الصينية في بلجراد ويتساءلون: هل كان الهدف مقصودا لإثبات أن أمريكا متنبهة لجهود الصين كي تلحق بركب القوى العظمى؟ أم أنه كان خطأ فنيا يثبت غباء المخطط العسكري؟
وتبقى الدول النامية على شاطئ الأحداث وهي تتفرج على ما يجري ولا ترى في الدول القوية إلا رموزا للهيمنة والسعي وراء الثروة والتقنية.
وينقلنا هذا إلى فوروكاوا الياباني الأمريكي المبشر دائما بسيادة أمريكا وحضارة الغرب, الذي يقول: إن القوة هي السعي الدائم للتخطيط لترتيب الشؤون الدولية, أي أن الغرب في رأي هؤلاء يعرف أكثر وأفضل, وهو كلام مردود عليه بفشل كل الخبراء الغربيين الذين تمت إعارتهم إلى الاتحاد السوفياتي السابق لإعادة تصميم وتخطيط اقتصاده, لأن البيئة مختلفة عما نشأوا عليه.
ويبقى التناقض الأعظم الذي ينتظرنا في القرن الحادي والعشرين, هو توافر العلم والمعلومات بصورة رائعة ولكن ذلك لن يحل المعضلات التاريخية المكررة وقد لا يسهم كثيرا في تحسين العلاقات السياسية والثقافية, بل إن رياح التغيير ستهب بعنف على المؤسسات الأساسية وعلى رأسها الأسرة, ما يجعل الأمور غامضة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي