الهيئة العامة للإسكان أكبر من لملمة المسؤوليات
وأخيراً صدر القرار السامي بإنشاء "الهيئة العامة للإسكان"، حيث تهدف إلى لملمة شتات الهم الأكبر لنحو 78 في المائة من السعوديين الذين لا يملكون مساكن، عن طريق توفير السكن المناسب وفق الخيارات الملائمة لاحتياجات المواطنين، ووفق برامج تضعها الهيئة من بينها تيسير حصول المواطن على مسكن ميسر تراعى فيه الجودة ضمن حدود دخله في الوقت المناسب من حياته وزيادة نسبة تملك المساكن. وستقوم الهيئة في سبيل تحقيق أهدافها بإعداد الاستراتيجيات الإسكانية الشاملة للمملكة وتحديثها وتطويرها واقتراح الأنظمة واللوائح والسياسات والتنظيمات الخاصة بنشاط الإسكان واقتراح التعديلات عليها وتحديد فئات المستحقين والمستفيدين من برامج الإسكان الشعبي والخيري.
ولعل أهم التحديات التي ستواجه الهيئة الوليدة هي قدرتها على تحقيق أهداف القرار السامي في سن الأنظمة والتشريعات القادرة على مقابلة احتياجات الأطراف العديدة ذات العلاقة بالإسكان بدءا بالممولين، ومروراً بأصحاب العقار والمستثمرين والمطورين، وانتهاء بالطرف الأضعف (المواطن). ولن يتأتى ذلك إلا بالاستفادة من أدبيات هذا القطاع التي تزايدت في السنوات الأخيرة مع اشتداد أزمة السكن. فقد عقدت العديد من المؤتمرات والمنتديات المهمة في هذا المجال، وطرحت العديد من الأوراق والأفكار، وكذلك بعض الأرقام والاحصاءات التي كانت كبيرة بالفعل. حيث من المؤمل أن تكون تلك الأدبيات هي الأساس (بعد تنقيحها) التي ستنطلق منها الهيئة في رسم استراتيجيتها. ويجب أن تكون تلك الاستراتيجية مفصلة تفصيلاً دقيقاً بما فيها آليات التنفيذ التي يجب أن توضح دور الأطراف المتعاملة والمهتمة بالإسكان بشكل شفاف وواضح يمنع احتمال التعارض في التشريعات والأنظمة واللوائح من أجل سلاسة تنفيذها وبالتالي تسريع دوران عملية تملك مسكن لكل مواطن.
ويبدو أن العائق الأكبر الذي سيواجه الهيئة هو قدرتها على بناء بيئة تشريعية وتنظيمية لتشكل البيئة التحتية الحقيقية لانطلاق تحقيق حلم مسكن لكل مواطن. فقد أشارت في مقالتين: أيلول (سبتمبر) 2006 وكانون الثاني (يناير) 2007) إلى ضرورة وجود استراتيجية تتبناها هيئة مخصصة للإسكان تدعو إلى عدم وضع العربة قبل الحصان، وأن سد الثغرات التنظيمية والتشريعية والتنفيذية هي أول الحلول لوضع الحصان قبل العربة. ويأتي حل معضلة التمويل كثاني الحلول لتسهيل دوران وحركة العربة المحملة بضغوط كبيرة تواجه صناعة الإسكان والمساكن في المملكة التي تبدو أكثر حدة من أية دولة أخرى. ولعل من أهمها أن الدخل الفردي للفئة العمرية بين 25 و35 سنة، وهم القادمون الجدد لتكوين عائلات جديدة، يصل في المتوسط إلى نحو أربعة آلاف ريال عطفاً على حداثة خبرتهم الوظيفية والسلم الوظيفي في القطاع الحكومي والخاص الذي يراوح في متوسطه عند ذلك الأجر. إضافة إلى أن نمو تكوين العائلة يفوق نمو المساكن بنسبة كبيرة، حيث تصل الفجوة بين العرض والطلب إلى 50 في المائة، وهي كبيرة للغاية. بمعنى أن الطلب الحالي والمستقبلي أعلى من المعروض الحالي و المستقبلي بـــنسبة 50 في المائة. يضاف إلى ذلك، ارتفاع أسعار العقارات والوحدات السكنية بشكل مبالغ فيه، مما يضعف من القدرة الشرائية للمواطن. ولتعزيز قدرة المواطن الشرائية لامتلاك منزل مناسب في الوقت المناسب، فإنه يحتاج إلى تسهيلات تمويلية لا تستطيع البنوك المحلية أو شركات التقسيط الحالية مقابلتها دون وجود هيكل تمويلي متكامل، يرتكز على وجود سوق مالية متكاملة، تمثل سوق السندات والصكوك مصدراًَ تمويلياً رئيسا فيها. فمن المؤمل أن تكون السوق المالية الداعم أو "السند" المحوري لعملية تمويل المساكن. فهي التي ستكون قناة رئيسية لعملية "التسنيد" و"التصكيك" للتخلص من قروض المساكن القائمة، بإصدار سندات وصكوك مقابل تلك القروض لخلق قروض جديدة. ويتناسب إصدار السندات مع طبيعية السوق العقارية، وخصوصاً قطاع المساكن، الذي يتطلب قروضا طويلة الأجل تصل إلى 30 عاماً، مع ما يعتري هذه المدة الطويلة من مخاطر لا يمكن التنبؤ بها، ولا يمكن للقطاع البنكي أو قطاع تقسيط المنازل من تحملها أو مجابهتها ما لم تكتمل هيكلية التمويل في وجود عدة أسواق (سوق أولية وسوق ثانوية ). وكما هو واضح فإن تشريعات السوق المالية لم تكتمل حتى الآن فهي لم تشمل حتى الآن تنظيم سوق السندات والصكوك الإسلامية. وإذا أضفنا إلى ذلك عدم اكتمال الأنظمة والتشريعات الأخرى الخاصة بالمساكن وتمويلها مثل نظام الرهن العقاري، فإننا نتحدث عن غياب شبه كامل للبنية التحتية المتمثلة في البيئة التنظيمية والتشريعية لصناعة قطاع العقار والمساكن.
وحتى مع اكتمال الأنظمة والتشريعات يظل التمويل هاجساً كبيراً – أمام تلك الهيئة الوليدة - ذلك لأن حجم تمويل المساكن ضخم جداً لدرجة أنه يمثل 65 في المائة من إجمالي القروض في الولايات المتحدة. وضخم للغاية لدرجة أن صندوق التنمية العقاري بمحفظته البالغة 92 مليار ريال غير قادر على تلبية احتياجات الطلب المتنامية على الإسكان. وضخم للغاية لدرجة أن 70 في المائة من حجم قطاع العقار هو عقار المساكن، ولدرجة أن العقار يمثل أضخم قطاع اقتصادي بعد قطاع النفط والغاز. وإذا ربطنا قطاع المساكن بأنشطة الاقتصاد الأخرى (أسمنت، حديد، ألمنيوم، دهانات، رخام وسيراميك، سباكة، كهرباء، أثاث ومفروشات، مسابح، وحدائق... إلخ) لوجدناه يمثل الاقتصاد في مجمله. بل أن شعار "مسكن لكل مواطن" هو ترجمة لشعار يمكن أن أسميه "المسكن هو الوطن، والوطن هو الاقتصاد". ودون صناعة متكاملة لقطاع الإسكان والمساكن يفتقد الاقتصاد أحد الأركان الداعمة لديمومة النمو.
لذا فإن دور الهيئة العامة للإسكان هو دور محوري في الاقتصاد السعودي، وتجابه مشكلة وطنية كبيرة تناثرت فيها المسؤوليات على عدد من الأطراف، وحتى يكون هذا الدور فاعلا فإن الهيئة تحتاج إلى صلاحيات عالية ونافذة، وليس إلى دور المنسق الذي يعمل على لملمة المسؤوليات المتناثرة.