جودة التعليم.. تأملات واقتراحات

يعد التعليم أبرز معالم حضارات الأمم، به تسمو العقول والثقافات وتنمو الأخلاق والتعاملات، ومن ثم تنضج الأمم في تعاملها الحضاري مع الكون بعد كشف أسراره والغوص في أعماق بحاره.
وفي ظل التحديات العالمية الجديدة من عولمة الاقتصاد والثقافة، والتفجر المعرفي والسكاني، والثورة العلمية والتكنولوجية في مجالات المعلومات والاتصالات والإعلام.. في تأثير كل هذه المتغيرات التي يزخر بها عالمنا المعاصر يأتي التعليم ليشكل العامل المشترك فيها، فمن ملك زمام العلوم استطاع أن يكون المؤثر الأكبر فيمن حوله، لذا تنطلق استراتيجيات دول العالم أجمع بالتركيز على منظومة التعليم تخطيطاً وتنفيذا وتوجيها ومراقبةً كل ذلك لتستجيب مؤسساتها التعليمية والتربوية لهذه المتغيرات واحتوائها والتأثير فيها والاضطلاع بمسؤولياتها وأداورها الجديدة التي أفرزتها حضارة هذا العصر وتغيراته المستمرة.
لذا تسعى جميع الدول لتطوير التعليم وتحديث مؤسساته وتنويع خططه وبرامجه من أجل اللحاق بركب الحضارة العالمية عن طريق سد الفجوة العلمية والتكنولوجية بين البلدان النامية والمتقدمة التي تظهر لكل ذي بصيرة. فتحول التركيز من الكم إلى الكيف، فحاول كثير من الدول تطبيق أفضل النظريات التي أثبتت نجاحها تحت أطرها الثقافية ومبادئها الحضارية، فجاء الاهتمام أخيرا بالإطار الفسلفي والفكري لإدارة الجودة الشاملة TQM، التي برزت في الخمسينيات وكانت أحد أسباب التفوق التكنولوجي الياباني، فنجحت في القطاع الصناعي ثم استطاعت أن تثمر بنتائج إيجابية في قطاع التعليم، فاتسع تطبيقها في العالم في العقود الثلاثة الماضية، وتنافست الدول في الاستفادة من شموليتها وتأثيرها الإيجابي في المنظومة التعليمية برمتها.
وإن عملية التعليم هي كأي عملية لها مدخلاتها الخاصة، التي يتم وضعها تحت عوامل ومؤثرات مقننة تؤدي إلى الحصول على مخرجات مخطط لها تحقق أهداف المنظومة التعليمية.. مع التأكيد على اختلاف النظام التعليمي عن الصناعي في الأهداف وفي العمليات والمدخلات، وبالتالي في المخرجات.
وباختصار غير مخل لخص أحد الباحثين وهو بونستنكل Bonstingl 1992 عملية الجودة في التعليم بقوله: إن المدرس والمدرسة بتوفيرهما أدوات التعليم الفعالة والبيئة التنظيمية الملائمة يمثلان جهة تقديم الخدمة، والطالب يمثل المستفيد الأول، لذا فإن مسؤولية المدرسة هي توفير التعليم الذي يجعل من الطلاب نافعين على المدى البعيد وذلك بتدريسهم كيفية الاتصال بمحيطهم وكيفية تقويم الجودة في عملهم وعمل الآخرين، وكيفية استثمارهم لفرص التعليم المستمر على مدى الحياة لتعزيز تقدمهم. وإن المستفيد الثانوي من خدمات المدرسة هم الآباء وأولياء الأمور والمجتمع الذين من حقهم توقع نمو مدارك وقدرات ومهارات أبنائهم الطلاب وتطور شخصياتهم ليكونوا نافعين لذويهم ومجتمعهم. إن تحقيق الجودة يقع عبؤها على كاهل المدرس والطالب من جهة، والمدرسة والمجتمع من جهة أخرى.
فمنظومة الجودة التعليمية ترتكز إلى أربعة عناصر أساسية هي: النظام التعليمي وما يشتمل عليه من نوعية مواد التعليم وطرقه والمعلم والمناهج، والنظام الإداري المساند للنظام التعليمي، والنظام الاجتماعي للطالب والمعلم، وأخيراً التقنيات والأدوات التي تفرزها ثقافة الجودة في البيئة التعليمية ومالها من دور في عملية التحسين المستمر.
إن المتأمل في مملكتنا الحبيبة يجد الكثير من المبادرات العملية والأطروحات العلمية من هنا وهناك قد تبنت تطبيق إدارة الجودة في منظومة التعليم واستطاعت أن تحصل على بعض النجاحات، ولكنها للأسف ـ من وجهة نظري ـ مازالت تراوح بين قطبي الرغبة الصادقة والتوعية الجامدة.
وإننا إذا أردنا أن ننجح في تطبيق مفاهيم إدارة الجودة الشاملة ونظفر بمميزاتها وفوائدها، أقترح ما يلي:
أولاً: تبني الدولة ـ رعاها الله ـ هذا المبدأ الحضاري من خلال مؤسساته المختلفة ورسم ميثاق وطني لتبني ونشر مفاهيم الجودة وتطبيقاتها في شتى مجالات الحياة ومن أهمها التعليم.
ثانياً: إنشاء مركز أو مجلس وطني يتبنى هذا المفهوم ويرسم استراتيجياته وخططه على المديين القصير والبعيد ومتابعة التنفيذ والاستفادة من الطاقات الكبيرة والكثيرة، ولله الحمد، من مختصي الجودة في مملكتنا الحبيبة.
ثالثاً: تفعيل دور هيئة الاعتماد والجودة للتعليم الجامعي والبدء في التطبيق العملي الفاعل لأهدافها. وفي هذا الإطار ينبغي تفعيل جائزة الملك عبد العزيز للجودة في قطاع التعليم، حيث إن الجائزة قد بدأت رحلتها الإيجابية في القطاع الصناعي والخدماتي.
رابعاً: الاهتمام بتعليم الجودة، فجودة التعليم تنطلق من تعليم الجودة وتطبيقاتها ومفاهيمها المختلفة، وذلك بإنشاء الكليات والمعاهد المختصة بهذا الفن من العلوم، وحث الجامعات في إنشاء أقسام متخصصة في هذا المجال ومراعاة حاجة السوق والمجتمع سواء في مرحلة البكالوريوس أو الدراسات العليا.
خامساً: الاستفادة من المشروع الحضاري الكبير مشروع الملك عبد الله لإصلاح التعليم في بث مفاهيم وتطبيقات الجودة وتنمية ثقافتها على شتى المستويات، وبناء القادة الذين يلتزمون بها عقيدةً وخلقا وتنفيذا.
كما أن ذلك يستلزم التناغم والتكامل بين مخرجاتها جميعاً والتنسيق المباشر بينهم.. لتظهر ثمارها يانعة، بإذن الله، وتحقق المراد منها.. عندها ستسعد، بإذن الله، البلاد والعباد بتميَّز التعليم ومتعته، ومن ثم تفوق بلادنا الغالية على سائر الأمم والشعوب، وبالتالي تأثيرها الإيجابي في بوتقة العولمة بما يناسب مكانتها بين أقطار الأرض.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي