التدخل الحكومي: عندما يتحول ذنب الأفعى إلى حنش!
تصور لو قام أحد ما بقتل أفعى، ثم انفصل ذنبها، وعاش هذا الذنب، وتحول إلى حنش كبير. هذه هي حال القوانين الحكومية التي تم إلغاؤها، ولكن متعلقاتها ما زالت هناك.
لاشك أن الأزمة المالية والكساد ألقيا بكاهليهما على صناعة السيارات الأمريكية، ولكن نظرة سريعة إلى سياسة الحكومة الأمريكية والحلول المقترحة لمأزق شركات السيارات توضح أن المشكلة التي تحاول الحكومة حلها هي مشكلة قديمة، وأغلبها يتعلق بالتدخل الحكومي في صناعة السيارات الأمريكية. إن ما تطالب به حكومة أوباما اليوم لا علاقة له بالأزمة المالية، ولكنه يتفق تماما مع فلسفة الديموقراطيين وحماة البيئة، وتتعارض تماما مع فلسفة حرية الأسواق. إن الذي أصاب الشركات في مقتل هي قوانين العمل التي أعطت قوة كبيرة لاتحادات العمال من جهة، والقوانين البيئية التي زادت من التكاليف. هذه القوانين أثرت أيضا في نوعية السيارات، كما أثرت في قدرة الشركات الأمريكية على التنافس مع نظيرتها الآسيوية والأوروبية.
إن إنتاج السيارات الكبيرة لم يكن إلا ردة فعل على ما يطلبه المستهلكون، وإذا كان البعض لا يحب السيارات الكبيرة، فإن هذا لا يعني بالضرورة أن الشركات كانت مخطئة.
مشكلة التدخل الحكومي في الأسواق أنه ينتج عنه عديد من الأمور التي لم تكن في الحسبان، وبدلا من أن تقوم الحكومة بوقف تدخلها لوقف المشكلات الناتجة عن ذلك، تقوم الحكومة بتبني سياسات إضافية هدفها حل المشكلات الناتجة عن تدخلها الأول، ولكن القوانين الجديدة سيكون لها عواقبها أيضا، الأمر الذي يجبر الحكومة على إصدار المزيد من القوانين، وهكذا. ومن الأمثلة على ذلك تحديد الأسعار الذي قامت به الحكومة الأمريكية عام 1971، الذي شمل المشتقات النفطية وكان هدفه وقف التضخم. ووفقا للموقف الرسمي للحكومة الأمريكية، وكثير من وسائل الإعلام، فإن أزمة الطاقة التي عانتها الولايات المتحدة في عامي 1973 و1974، التي أدت إلى طوابير طويلة من السيارات أمام محطات البنزين، نتجت عن المقاطعة النفطية التي فرضتها بعض الدول العربية على الولايات المتحدة، على أثر دعم الأخيرة لإسرائيل في حرب رمضان.
ولكن الحقيقة أن الولايات المتحدة كانت مقبلة على أزمة، بغض النظر عن المقاطعة النفطية بسبب التدخل الحكومي في تسعير المنتجات النفطية.
لقد كانت طوابير السيارات نتيجة التسعير الحكومي، ولم تكن نتيجة المقاطعة. وكانت الحكومة الأمريكية قد استغلت المقاطعة لتغطي على كثير من سياساتها الخاطئة، وتمرير قوانين ما كان للكونجرس ومجلس الشيوخ أن يوافق عليها لولا المقاطعة. لقد وفرت المقاطعة النفطية الغطاء الكافي للسياسيين الأمريكيين وغيرهم ليتبنوا سياسات كثيرة لخدمة مصالحهم ومصلحة ناخبيهم. ويمكن القول إن المقاطعة النفطية من أكبر الأحداث السياسية في العصر الحديث التي مر عليها زمن طويل، ولكن مازالت الدول المستهلكة للنفط تتبنى سياسات بناء عليها.
المشكلة بدأت في السبعينيات
مع ارتفاع أسعار النفط قررت الحكومة الأمريكية اتخاذ سياسات متعددة لتخفيض الطلب على النفط، التي تضمنت إجراءات تقشفية شديدة منها إطفاء أضواء شجرة عيد الميلاد في البيت الأبيض كإشارة للشعب الأمريكي على حدة الأزمة وضرورة ترشيد استهلاك الطاقة. وكان من ضمن السياسات إنتاج سيارات صغيرة ذات كفاءة عالية في استخدام البنزين. الغريب في الأمر أن الحكومة انزعجت انزعاجا كبيرا، لأن الشعب الأمريكي استمر في شراء السيارات الكبيرة ذات الاستهلاك العالي للوقود، وعندما وجَهت إصبع الاتهام للشعب "اللامبالي" و"الجاهل" الذي لا يعرف أن "الأمة تعاني أزمة طاقة خانقة"، كان رد الخبراء أن "الحكومة هي السبب لأنها تسعّر وقود السيارات بنحو نصف السعر العالمي للنفط"، الأمر الذي يشجع المستهلك الأمريكي على شراء السيارات الكبيرة! كان من المفروض أن تدرك الحكومة خطأها وتتراجع عن تسعير المشتقات النفطية، ولكنها استمرت في الخطأ، وأصدرت قوانين جديدة تجبر شركات السيارات على إنتاج سيارات صغيرة تستهلك كميات أقل من البنزين، بما في ذلك قانون متوسط كفاءة الوقود للسيارات، الذي يقضي أن يكون متوسط استهلاك الوقود للسيارات التي تنتجها الشركات ضمن حد معين. قامت شركات السيارات بالامتثال لهذا القانون عن طريق استيراد السيارات الصغيرة ذات الكفاءة العالية في استخدام البنزين من فروعها الأجنبية في أوروبا، وكانت الأمور تسير على ما يرام إلى أن قامت اتحادات عمال السيارات بإجبار شركات السيارات الأمريكية على وقف الاستيراد وبناء هذه السيارات محليا. باختصار، تم إجبار الشركات على صناعة هذه السيارات.
لقد تم إجبار الشركات الأمريكية على إنتاج السيارات الصغيرة، رغم أن غالبية الأمريكيين لا يحبون السيارات الصغيرة. إن سبب انتشار السيارات الصغيرة في الثمانينيات لا يعود إلى تغيير الأمريكيين لسلوكهم بسبب ارتفاع أسعار النفط، إنما يعود إلى سببين: الأول إجبار الحكومة الأمريكية للشركات على تصنيع السيارات الصغيرة, الثاني شراء العائلات الأمريكية السيارات الصغيرة بسبب رخصها نسبيا لأولادهم. بعبارة أخرى، وبشكل عام، لم يقم الأمريكيون الذين كانوا يقودون سيارات كبيرة في السبعينيات بتغييرها بسيارات صغيرة في الثمانينيات. الأهل استمروا في قيادة السيارات الكبيرة، بينما استخدم الأولاد السيارات الصغيرة. هؤلاء الأولاد هم أنفسهم الذين اشتروا السيارات العائلية والرياضية الكبيرة في السنوات الأخيرة. لو كان هناك "تغير ثقافي" في استخدام السيارات، لماذا لم يغير الأهل عادتهم في الثمانينيات؟ ولماذا اشترى الأولاد سيارات كبيرة عندما كونوا عائلاتهم؟
تخفيض استهلاك البنزين
أجبر القانون الشركات على أن تنتج سيارات يكون متوسط استهلاكها كمية معينة من البنزين. وبما أن أقل الحلول تكلفة وأسرعها هو تخفيض وزن السيارة حتى تستهلك كميات أقل، فتم تصنيع سيارات صغيرة جدا وخفيفة، الأمر الذي أسهم في زيادة عدد الوفيات في حوادث الطرق بشكل ملحوظ. وبما أن القانون يركز على المتوسط، فإن شركات السيارات استمرت في بناء سيارات كبيرة ذات استهلاك عال للبنزين، دون أن يتأثر المتوسط طالما أنها تنتج السيارات الصغيرة. وكما هي الحال في أي قانون، حاول المتأثرون به التأقلم معه بما يتناسب مع مصلحة الشركة، فقامت الشركات بإعادة تصنيف السيارات بطريقة جعلها ملتزمة بالقانون، ولكنها مازالت لهذه السيارات مواصفات السيارات الكبيرة. والآن تقوم حكومة أوباما بالضغط على شركتي جنرال موتورز وكرايزلر لزيادة متوسط استهلاك الوقود في السيارات، وهو تدخل خطير، قد ينتج عنه إفلاس الشركتين.
المشكلة أن حكومة أوباما تتجاهل مبدأ اقتصاديا معروفا، وتدعمه أدلة من أنحاء العالم كافة، وهو أن انخفاض السعر أو التكاليف يؤدي إلى زيادة الطلب. هذا يعني أن انخفاض تكاليف قيادة السيارة عن طريق تخفيض تكلفة البنزين اللازم للسفر لمدة كيلومتر واحد سيؤدي إلى زيادة عدد الرحلات والسفرات. باختصار، إجبار الشركات على رفع متوسط استهلاك الوقود لن يسهم في تخفيض واردات الولايات المتحدة من النفط، ولن يخفض معدلات التلوث.
أخيرا، لنتذكر أن ما نراه اليوم بدأ بتحديد الحكومة لأسعار المشتقات النفطية عام 1971 بهدف تخفيض معدلات التضخم، والآن بعد 40 عاما، تعاني شركات السيارات من قانون متوسط استهلاك الوقود، الذي تم تبنيه لإصلاح مساوئ القانون الأول. القانون الأول ألغي منذ نحو 28 عاما، ولكن "ذنبه" مازال حيا وتحول إلى "حنش"!