عندما تصبح حلول المشكلات جناية علينا!

تخيل أن موظفا جديدا ذهب إلى مديره لطلب مكتب وكرسي فقال له إن ذلك سيكون ممكنا عند التخلص من المبنى الحالي القديم وإيجاد مبنى جديد فخم يليق باسم المؤسسة وسمعتها، وبعد اختيار أفضل الشركات العالمية للتأثيث والديكور بحيث يكون لكل موظف مكتبا فخما لائقا به. في هذه الحالة سنحكم جميعا على المدير بالفشل وسنضحك عليه لأن الحل الذي طرحه معناه أن يبقى الموظف الجديد بلا كرسي حتى تتحقق أحلام سعادة المدير. تخيل إضافة إلى ذلك لو كانت المؤسسة خاسرة وليست لديها ميزانية وعليها حكم قضائي بالإغلاق وموظفوها يستقيلون منها بالعشرات كل يوم، حينها سنقول إن المدير مجنون ويحتاج إلى زيارة أقرب طبيب نفسي.
لكن هذه القصة هي في الحقيقة واقع يتكرر كل يوم في حياتنا. عندما تقرأ ما يكتبه بعض الإعلاميين والكتاب في صحفنا كل يوم، وما يفتي به بعض طلبة العلم، وما يتحدث عنه بعض الأكاديميين، تجد أنهم لا يختلفون كثيرا عن ذلك المدير الحالم أو المجنون في طريقة تفكيرهم.
أمتنا العربية من الخليج إلى المحيط تعاني مشكلات كثيرة وهائلة ومتشابكة تتطلب أفضل العقول لعلاجها، وهي تتباين على كل المستويات بلا استثناء، ولا تكاد تعرف أين تبدأ في تشخيص تلك المشكلات قبل أن تبدأ في التفكير في علاجها، ومع ذلك تجد طروحات منتشرة بشكل واسع في إعلامنا وكتبنا ورؤانا الدينية تقدم حلولا مثالية تحتاج لمجتمعات فاضلة ليمكن تطبيقها، وتكاد تكون أبعد ما يمكن عن مجتمعاتنا العربية التي تعاني مشكلات اجتماعية واقتصادية وسياسية وتعليمية لها أول وليس لها آخر.
ليس لدي مشكلة مع الطروحات المثالية إذا كانت ترسم الأفق الأبعد وتحاول بناء حلم تتعلق به الأمم في مسيرتها، ولكن تقديم هذه الطروحات كعلاج وحيد لوضع قائم فهو المشكلة، وذلك باختصار لأنه يشغلنا عن إيجاد الحلول الواقعية لمشكلاتنا ويطيل من مسيرة العناء التي نعيشها كل يوم.
نحتاج إلى ثقافة عامة بين الناس ترى أن حل المشكلات يجب أن يتم على أساس علمي، وحل المشكلات على أساس علمي يقوم على تشخيص المشكلة وتحديد الهدف ثم تحديد الخطوات العملية التي تحقق هذا الهدف، وبناء برامج متكاملة ثم تحليل هذه البرامج وتقييمها وتعديلها بناء على أساس ذلك التقييم لجعلها أكثر فاعلية في المستقبل. هذا هو التفكير الذي بنى الحضارة الغربية، وأسهم في استمرار فاعليتها وتعاملها مع المشكلات التي تظهر كل يوم، وهو التفكير الذي علمهم كيف يمضون خطوة إلى الأمام كل يوم.
كنت قد جمعت أمثلة قبل كتابة هذا المقال عن فتاوى تجيب عن مشكلات لنساء يعانين أمرا ما فتأتي الفتوى راسمة حلا مثاليا لا يمكن إيجاده إلا في العصور الأولى، ولكتاب يقولون إن حل مشكلاتنا السياسية أن تتحول الدول العربية إلى دول صناعية نووية لتعتمد على نفسها في مواجهة الدول الكبرى، أو آخر يرى أن علاج الإرهاب في المغرب يكون عبر إلغاء الفقر فيه، ولكنني خفت أن يظن القارئ أن المقال رد على هذه الأمثلة بينما هي في الحقيقة ثقافة عامة فيما نكتب ونفكر.
في مناهج البحث في الجامعات الغربية هناك مادة إلزامية حول تقييم البرامج العلاجية للمشكلات على اختلافها، بينما لا يوجد حديث حول هذه الفكرة في مناهج البحث لدينا لأن فكرة ضرورة وجود برامج لعلاج أي مشكلة أمر ما زال محدود الانتشار في أروقة المؤسسات العامة في العالم العربي.
إن علاج مشكلاتنا العويصة يجب أن يتم خطوة بخطوة، عقدة بعد عقدة، مشكلة بعد مشكلة، أما تجاوز كل المشكلات بكبسة زر واحدة للوصول إلى الحلم فهذا أمر مستحيل.
المدير المجنون يجني على شركته والمفكر الحالم غير الواقعي يجني على أمة كاملة!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي