صراع النفوذ والسيطرة

على الرغم من خطورة الأزمة الاقتصادية العالمية الراهنة، إلا أن العالم سيتجاوزها ـ بإذن الله تعالى ـ لأسباب عملية ولسنن كونية. لكن لا أحد يعرف متى سيبدأ التعافي وكم سيكون ثمنه. عقب انتهاء قمة العشرين في لندن، أبدت أسواق المال الدولية تجاوبا تفاؤليا تجاه قرارات القمة. بيد أن عظم حجم الكارثة، يدل على أن هذه القرارات لا تعدو أن تكون خطوة أولى على طريق طويل ما زال محفوفا بمخاطر عالية وشكوك متزايدة حول مدى قدرة هذه الجهود على تخليص العالم من براثن هذه الأزمة بسرعة كافية وإجراءات مناسبة تمنع أن يغذي هذا الكساد نفسه ويبقيه فترة طويلة. فكلما طال أمد الركود، زاد خطر توسع الأزمة وتجذرها بشكل يفوق نطاق انتشارها الحالي.
وفي تصوري، أن عودة الاستقرار الحقيقي للاقتصاد العالمي يعتمد كثيرا على إصلاح الخلل الأساسي في النظام المالي الدولي. فهذا النظام الذي تطور منذ ظهور البنوك قبل نحو ثلاثة قرون، فصل بفلسفته وأدواته فصلا شديدا بين المال والإنتاج. فأخرج المال من وظيفته الأساسية كوسيط في التبادل، وجعل منه سلعة يتم المتاجرة فيها بذاتها، حتى غدت قيمة الديون نحو ستة أضعاف قيمة الناتج القومي في بلد كالولايات المتحدة، حيث بلغت الديون نحو 68 تريليون دولار، فيما ناتجها القومي لم يتجاوز 14 تريليون دولار. وغدت الأرباح التي تتولد في القطاع المالي تفوق كثيرا تلك التي تتولد في الأنشطة الإنتاجية الحقيقية، الأمر الذي أدى لسوء توزيع مخيف في الدخول بين طبقات المجتمع، فتراجع طلب الأفراد الاستهلاكي الذي انعكس بدوره على المنتجين فتراكم الفائض لديهم، واضطروا للاستغناء عن بعض العمالة لكنهم شجعوا الباقين على وظائفهم على الاقتراض لدعم طلبهم. وهذا وضع لابد أن يؤدي للانفجار بعد حين، ولذلك تستمر الدورات بين انكماش وركود، ثم انتعاش فقاعي غير حقيقي فانفجار فركود مرة أخرى.
وإن أخطر ما سيحدث هو أن يمول أصحاب النفوذ والثروات مراكز الأبحاث والجامعات للقيام بدراسات تفصيلية تدافع عن بقاء الحريات المطلقة وتركز على عوارض المشكلة وليس نحو أساسها الفكري والفلسفي الخطير. لأن إصلاح أصل الإشكال فيه ذهاب لمصالح المتنفذين وانهيار لشبكات سيطرتهم. ومن لديه ذرة شك في وجود هذه العصابات المالية، فليتأمل سبب عدم تعاون مادوف مع السلطات القضائية الأمريكية، فقد فضل الذهاب إلى السجن على تخفيف الحكم عليه لو تعاون وكشف عن أسماء وأسرار العاملين معه خلف الكواليس من ذوي القوى السياسية والاقتصادية النافذة جدا، لكنه يعلم أن في الكشف عنهم نهاية لحياته، تماما كما تفعل عصابات المافيا.
منذ انفجار الأزمة بشكل علني في أيلول (سبتمبر) 2008م، ظهر صراعان مريران: صراع لمواجهة الذيول الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة التي ترتبت على الصدمة الاقتصادية التي أصابت مختلف دول العالم وشلت النشاط الاقتصادي داخل الدول وبين بعضها بعضا. وصراع آخر على النفوذ المالي الدولي بين قوى أنجلو سكسونية تقليدية (الولايات المتحدة وبريطانيا) طاب لها القبض على دهاليز المال في العالم وعلى مفاتحه وأسراره، وقوى أوروبية وآسيوية استبد بها غضب شديد تجاه العربدة المالية والفضائح الأخلاقية التي خلفها النموذج الأنجلو سكسوني المنفلت من صنوف الضوابط الضرورية بدعوى عدم المساس بالحريات والابتكارات، فناورت القوى الأوروبية والآسيوية قبل وأثناء القمة لسحب ما تستطيع من بساط القوة والنفوذ المالي من تحت الأقدام الأنجلو سكسونية.
فأوروبا بقيادة ألمانيا وفرنسا طالبت من ناحيتها بضوابط مالية شديدة على النظام والمؤسسات المالية والمصرفية. أما روسيا والصين فقد ناورتا فيما هو أبعد, حيث طالبتا بالنظر في إيجاد عملة احتياط دولية جديدة غير الدولار تتصف بالاستقرار والثبات. واستبد بالقوى الأنجلو سكسونية قلق شديد أن تفقد نفوذها الدولي من جراء هذه الأزمة، فحرصت على أخذ زمام المبادرة منذ انفجار الأزمة في أيلول (سبتمبر) الماضي لترتيب لقاء دولي يكون لها فيه السيطرة في وضع جدول أعماله وتحدد أولوياته من أجل بقاء مفاتيح السيطرة والنفوذ المالي بيديها.
وقد تحقق لها ما أرادت ولو إلى حين، فقد احتفظت بالسيطرة المالية ونجحت في استبعاد طلب روسيا والصين في البحث عن بديل للدولار، كما جعلت المؤتمرين يلتزمون بخطط إنفاق تحفيزية ضخمة. بيد أنها لبت رغبات الأوروبيين فيما يتصل بمزيد من الضوابط المالية والكشف عن الملاذات الضريبية. أما بقية المواضيع كحرية التجارة ومساعدة الدول النامية فلم يكن حولها خلاف كبير، لأنها تخدم مصالح القوى الكبرى.
ما انتهت إليه القمة هو رد عالمي منسق لمواجهة الركود العالمي، كان للقوى الكبرى اليد الطولى في ترتيبه لكنه أبقى على مراكز النفوذ والسيطرة على حالها. وستبقى بعض القرارات مجرد التزامات غامضة. بيد أن الأزمة التي بدأت في النظام المصرفي لن يتم حلها إلا إذا تم إصلاح هذا النظام. وسيبقى الدولار حتى حين عملة الاحتياط لعدم وجود بديل جيد، لكنه سيفقد مع خطط الإنفاق الضخمة وارتفاع الدين الأمريكي المزيد من قوته تجاه العملات الأخرى. وعلينا الاستعداد من الآن لما يخدم مصالحنا أكثر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي